ذات النطاقين مشرف عام
تاريخ التسجيل : 03/06/2010
| موضوع: شهادات على نبوته الأربعاء يوليو 07, 2010 11:03 pm | |
| شَهِدَ الحقُّ تبارك وتعالى لنَبِيِّهِ محمدبأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، فقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وكفى بشهادة ربِّ العالمين دليلاً على صدق رسول الله، ولكننا آثرنا أن نُقَدِّمَ لأصحاب المذاهب العقليَّة شهاداتٍ أخرى لكل من عايش رسول اللهمن الصحابة الأجلاَّء، وزوجاته الفضليات، بل وأعدائه الألدَّاء، ومَنْ قرأ عنه وسمع سيرته من العلماء الغربيين؛ ليُدْرِكُوا جيِّدًا أن كُلَّ مَنْ عَرَف رسول اللهقد اعترف بعُلُوِّ هِمَّته، وصفاء طبعه، وطهارة قلبه، ونُبْلِ خُلُقِه، ورجاحة عقله، فشهدوا في حَقِّه شهادةَ صدقٍ؛ فكانت هذه الشهادات دليلاً على صدق دعوته وعظمة رسالته.
شهادة رب العالمين على نبوة محمد
تَعَدَّدَتِ الأدِلَّة على نُبُوَّة محمد رسول الله، ولكن تبقى شهادة ربِّ العالمين له بالرسالة أقوى دليل على صدقه فيما بَلَّغ عن ربِّ العزَّة I؛ وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن الحقَّ لن يُوَفِّقَ إنسانًا كذابًا مُدَّعِيًا عليه سبحانه، بل ويُؤَيِّده بالمعجزات الباهرات.
إضافةً إلى سبب آخر جوهري ألا وهو شهادة الواقع التاريخي للقرآن، التي تُثبت -بما لا يدع مجالاً للشكِّ- أنه أصدق وثيقة ظَلَّتْ حتى الآن بلا تحريف أو تبديل، تناقلتْ عبر الأجيال حفظًا متواترًا وكتابة محفوظة في مئات البلدان التي دخلها الإسلام، ممَّا يُعْطِي لها مزيَّة لا تتوافر في كل الوثائق التاريخية الأخرى.
شهادة الله لنبيه في القرآن ولننظر إلى الآيات القرآنية المختلفة، التي تحدَّثَتْ في أكثر من صورة عن شهادة الله جَلَّ وعلا لنبيِّه بالرسالة، فقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]. وننظر إلى قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [آل عمران: 144]. ويقول الطبري مُعَلِّقًا على هذه الآية: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا}، إنما جَعَلْنَاك -يا محمد- رسولاً بيننا وبين الخلق، تُبَلِّغُهم ما أرسلناك به مِن رسالة إليهم، وليس عليك غيرُ البلاغ وأداءُ الرسالة إلى مَنْ أُرْسِلَتْ إليه، فإن قَبِلُوا ما أُرْسِلَتْ به فلأنفسهم، وإن رَدُّوا فعليها. {وَكَفَى بِاللَّهِ} عليك وعليهم، {شَهِيدًا} يقول: حَسْبُكَ اللهُ -تعالى ذِكْرُه- شاهدًا عليكَ في بلاغِكَ ما أُمِرْتَ ببلاغِه من رسالته ووحيه، وعلى مَنْ أُرْسِلْتَ إليه في قَبُولهم منك ما أُرْسِلْتَ به إليهم، فإنه لا يخفَى عليه أمرُك وأمرُهم، وهو مُجَازيك ببلاغك ما وَعَدَك، ومجازيهم ما عَمِلُوا من خيرٍ وشرٍّ، جزاءَ المُحْسِن بإحسانِه، والمُسِيء بإساءته"[1].
ويقول الحقُّ تبارك وتعالى في آيات أخرى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 164-166].
ويُعَلِّقُ الأستاذ سيد قطب على هذه الآيات قائلاً: "فإذا أنكر أهل الكتاب هذه الرسالة الأخيرة، وهي جارية على سُنَّة الله في إرسال الرسل لعباده {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]؛ فأهل الكتاب يعترفون بالرسل قبل محمد؛ اليهود يعترفون بمن قبل عيسى، والنصارى يعترفون بهم وبعيسى... فإذا أنكروا رسالتَكَ -يا محمد- فلا عليك منهم، فليُنْكِروا {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] وفي هذه الشهادة من الله، ثم من ملائكته ومنهم مَنْ حَمَلَهَا إلى رسوله، إسقاطٌ لكل ما يقوله أهل الكتاب، فمن هُمْ والله يشهد؟! والملائكة تشهد؟! وشهادة الله وحدها فيها الكفاية! وفي هذه الشهادة تسرية عن الرسول، وما يَلْقَاهُ من كيد اليهود وعنتهم"[2].
وفي تحدٍّ عجيب يقول الحقُّ تبارك وتعالى للذين لا يؤمنون برسالة محمد: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43]. يقول ابن عاشور تعليقًا على شهادة ربِّ العالمين على صدق نبيِّه محمد: "إن الله لا يُصَدِّقَ مَنْ كذب عليه، فلا يَتِمُّ له أَمْرٌ، وهو معنى قول أئمة أصول الدِّينِ: إن دلالة المعجزة على الصدق أنَّ تغيير الله العادةَ لأجْلِ تحدِّي الرسول، قائمٌ مقام قوله: صَدَق عبدي فيما أخبر به عني"[3].
وآيات القرآن التي تشهد بصدق النبي محمدكثيرة، ولا نكون مبالغين إن قُلْنَا: إن كل القرآن يشهد بذلك تصريحًا أو تضمينًا. وما أجمل أن نختم هذا المقال بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]! أيُّ شاهدٍ في هذا الوجود كله هو أكبر شهادة؟ أيُّ شاهد تعلو شهادته كل شهادة؟ أيُّ شاهد تحسم شهادته في القضية فلا يبقى بعد شهادته شهادة؟... وكما يُؤْمَر رسول اللهبالسؤال، فهو يُؤْمَر كذلك بالجواب؛ ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطَبِينَ أنفسهم، ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع.
{قُلِ اللَّهُ} نعم! فالله I هو أكبر شهادة، هو الذي يَقُصُّ الحقَّ، وهو خير الفاصلين، هو الذي لا شهادة بعد شهادته، ولا قول بعد قوله؛ فإذا قال فقد انتهى القول، وقد قُضِيَ الأمر[4].
شهادة الصحابة على صدق نبوة الرسول
إن صحابة رسول اللههم الذين صَدَّقوا دعوة النبي محمد، وآمنوا برسالته، وصحبوه في سلمه وحربه، لفترة زمنية طويلة، فعلموا فيها حقيقة محمدوخبيئته، فلو كان محمدفظًّا في تعامله، سيئًا في سريرته، لكانوا أوَّل الناس ابتعادًا عنه، وكُرْهًا له، لكن الأمر كان على النقيض تمامًا؛ إذ كانوا يزدادون يومًا بعد يوم، فبلغ عدد من شهد حَجَّة الوداع منهم مائة ألف صحابي أو يزيد.
شهادة أنس بن مالك وقد شهد القريب والبعيد من صحابة رسول اللهبحُسْنِ خُلق النبي، فهذا أنس بن مالكأحد الصحابة الذين عاشوا مع محمدبصورة شبه كاملة؛ في البيت، وفي المسجد، وفي الطريق، وفي السوق، وفي الحرب، يقول: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ، وَلا لِمَ صَنَعْتَ، وَلا ألاَّ صَنَعْتَ"[1].
وهذا مثال في غاية الروعة، ووصفٌ في غاية الجمال؛ فعشر سنين فترة زمنيَّة ليست بالهيِّنَة ولا القصيرة، ورغم ذلك لم يخرج من فم رسول اللهأقل عُتب أو لوم لأنس، ولو خرج في هذه المُدَّة من رسول اللهما يُغضب أنسًا لقاله، ولأخبر به بعد وفاة النبي، لكن ذلك لم يحدث.
شهادة زيد بن الدثنة وحبه لرسول الله لقد أقرَّ كُلُّ الصحابة -بلا استثناء- بِحُبِّ رسول الله، وكان هذا الحُبُّ والإنصاف نابعًا من تصديقهم برسالته، ومعايشتهم لواقعه. وممَّا يُدَلِّل على هذا الحُبِّ والإنصاف موقف الصحابي زيد بن الدَّثِنَة، الذي أسَرَه بعضُ الهُذَلِيِّينَ، وباعوه لصفوان بن أمية القرشي الذي كان والده أمية قُتل في غزوة بدر الكبرى، فأراد أن يثأر لوالده بقتله لزيد بن الدَّثِنَة، فأخذوه إلى الحرم ليقتلوه، فرأى أبو سفيان رباطة جأشه، وإقباله على الشهادة بحُبٍّ منقطع النظير، فقال له: أتحبُّ أنَّ محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنَّك في أهلك؟ قال: والله ما أُحِبُّ أنَّ محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تُصِيبه شوكةٌ تؤذيه وأنا جالسٌ في أهلي[2].
إن زيدًاعلى مشارف الموت، وهذه اللحظة هي أصدق لحظة مع النفس؛ يُصَرِّح فيها الإنسان بالحقيقة التي لا جدال فيها، والتي تُؤَكِّدُ بكُلِّ ثقة واطمئنان أن محمدًافي وجدان أصحابه نبيٌ مرسل، فلو لم يكن كذلك، وكان دَعِيًّا كاذبًا، لما ضَحَّى زيدٌوغيره من الصحابة بأرواحهم وأموالهم في سبيلِ دَعِيٍّ كاذب.
شهادة وقصة إسلام سلمان الفارس
وممن شهد بصدق رسول الله، سلمان الفارسي الذي ظَلَّ يبحث عن النبي الحقِّ الذي عَرَف صفاته ومناقبه من أحد الرهبان في عَمُّورِيَة، بعدما طلب منه سلمان أن يدلَّه على راهب من الرهبان يعيش في كنفه عابدًا لربه، ويقص علينا سلمان قصته مع الهداية قائلا: "قال راهب عمورية: أي بُنيّ... قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرتين[3]، بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعلْ. قال سلمان: ثم مات وغُيِّب، فمكثت بعمورية ما شاء الله إن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب[4] تجارًا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم. فأعطيتهموها وحملوني، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني مِنْ رجل مِن يهودَ عبدًا، فكنت عنده ورأيت النخل، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفسي.
فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي راهب عمورية، فأقمت بها وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عَذْقٍ[5] لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال فلانٌ: قاتل الله بني قيلة! والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي. قال: فلما سمعتها أخذتني العُرَوَاءُ[6] حتى ظننت سأسقط على سيدي. قال: ونزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟! ماذا تقول؟! قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟! أقبلْ على عملك. قال: قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبتَ عما قال.
وقد كان عندي شيءٌ قد جمعته، فلمَّا أمسيت أخذته، ثم ذهبتُ به إلى رسول اللهوهو بقُبَاء، فدخلتُ عليه، فقلتُ له: إنَّه قد بلغني أنَّك رجلٌ صالحٌ، ومعك أصحابٌ لك غرباء ذوو حاجةٍ، وهذا شيءٌ قد كان عندي للصَّدَقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيركم. قال: فقَرَّبْتُه إليه. فقال رسول اللهلأصحابه: "كُلُوا". وأمسك يده فلم يأكل. قال: فقلتُ في نفسي: هذه واحدةٌ. قال: ثم انصرفتُ عنه فجمعت شيئًا، وتحوَّل رسول اللهإلى المدينة، ثم جئتُه به. فقلتُ له: إنِّي قد رأيتُكَ لا تأكل الصدقة، وهذه هديَّةٌ أكرمتُكَ بها. قال: فأكل رسول اللهمنها، وأمر أصحابه فأكلوا معه. قال: فقلتُ في نفسي: هاتان اثنتان. ثم جئتُ رسول اللهوهو ببقيع الغرقد، قد تبع جنازة رجلٍ من أصحابه عليه شَمْلتان[7] له، وهو جالسٌ في أصحابه، فسلَّمْتُ عليه ثم استدرتُ أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؛ فلمَّا رآني رسول اللهاستدبرتُه[8]، عرف أنِّي أستثبتُ في شيءٍ وُصِف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرتُ إلى الخاتم فعرفتُهُ، فأكببت عليه أُقَبِّله وأبكي. فقال لي رسول الله: "تَحَوَّلْ". فتحوَّلْتُ، فجلستُ بين يديه، فقصصت عليه حديثي..."[9].
وترجع أهمية قصَّة إسلام سلمان إلى كونها دليلاً يشهد بصدق نُبُوَّة محمد، بل إن بقاء سلمانعلى إسلامه، وجهاده ودفاعه عن الدين، ونشره له حتى مماته في عام خمسة وثلاثين من الهجرة، دليلٌ على كون محمدصادقًا فيما أُرسل إليه، ولم يكن مُدَّعِيًا للنُبُوَّة، أو كاذبًا فيما جاء به، ولو رأى سلمانخلاف ذلك لرجع إلى بحثه عن النبي الخاتم، الذي خرج من أجله منذ أعوام عديدة؛ إذ كان ذلك هو شغله الشاغل، لكن ذلك لم يحدث؛ لأن سلمانوجد أن محمدًا نبيٌّ حقًّا، بل هو خاتم الأنبياء أجمعين.
شهادة وقصة إسلام عبد الله بن سلام
وقد تَكَرَّرَ نفس الأمر عند إسلام الحَبْر اليهودي عبد الله بن سَلاَم[10]، فيروي قصة إسلامه بنفسه قائلاً:
"قال: لمَّا سمعتُ برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كُنَّا نَتَوَكَّفُ[11] له، فكنتُ مُسِرًّا بذلك صامتًا عليه حتى قَدِمَ رسول اللهالمدينة، فلمَّا قَدِمَ نزل بقُبَاء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رَجُلٌ حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعَمَّتِي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلمَّا سَمِعْتُ الخبرَ بقدوم رسول الله كَبَّرْتُ، فقالت عَمَّتِي حين سمعتْ تكبيري: لو كنتَ سمعتَ بموسى بن عمران ما زدتَ. قلت لها: أي عَمَّة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه[12]، بُعِثَ بما بُعث به. فقالت له: يابن أخي، أهو النبي الذي كنا نُخْبَرُ به، أنه يبعث مع بعث الساعة؟ قال: قلتُ لها: نعم. قالت: فذاك إذن.
قال: ثم خرجتُ إلى رسول الله، فلمَّا تَبَيَّنْتُ وجهه عرفت أنه ليس بوجهٍ كذاب. وفي رواية أخرى يقول عبد الله بن سلام: أتيتُ النبيفقلتُ له: إني سائِلُكَ عن خِلالٍ لا يعلمهُنَّ إلاَّ نبي: ما أوَّل أشراط الساعة؟ وما أوَّل طعام أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ وما هذا السواد الذي في القمر؟ قال: "أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا". قلت: جبريل؟ قال: "نَعَمْ". قلت: عَدُوّ اليهود من الملائكة. ثم قرأ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]، قال: "أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ تَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الْوَلَدَ، وَأَمَّا السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ فَإِنَّهُمَا كَانَا شَمْسَيْنِ"، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء: 12] "فالسَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتَ هُوَ الْمَحْوُ". فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله.
ثم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا، وكتم إسلامه، ثم خرج إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن اليهود قد علمتْ أني سيدهم وابن سيدهم، وأَعْلَمَهُمْ وابن أعلمهم، وأنهم قوم بُهُت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عَنِّي بهتوني، وقالوا فِيَّ ما ليس فِيَّ، فأُحِبُّ أن تُدْخِلَنِي بعض بيوتك. فأدخله رسول الله بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود، فدخلوا عليه فقال: "يا معشر يهود، يا ويلكم! اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو! إنكم لتعلمون أني رسول الله، قد جئتكم بالحق فأسلموا". فقالوا: ما نعلمه. فقال: "أي رجل فيكم الحصين بن سلام؟" قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. فقال: "أرأيتم إن أسلم". قالوا: أعاذه الله من ذلك! فقال: "يابن سلام اخرجْ إليهم".
فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقًّا، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة؛ اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله، وأؤمن به، وأصدقه، وأعرفه. قالوا: كذبت، أنت شَرُّنَا وابن شَرِّنَا. وانتقصوه. قال: هذا الذي كنتُ أخاف يا رسول الله، ألم أُخْبِرْكَ أنهم قوم بُهُت، أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: وأظهرتُ إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمتْ عمتي خالدة بنت الحارث وحَسُنَ إسلامها[13].
شهادة عمرو بن العاص
ولم تكن هذه الشهادات في حياة رسول اللهفقط، ولكنها كانت -أيضًا- بعد مماته، فها هو عمرو بن العاص يقول عن رسول اللهبعد وفاته وهو يصفه: "مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ؛ إِجْلاَلاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ"[14].
هذه بعض شهادات الصحابة على حُبِّهِمْ له، وإيمانهم بدعوته، وتصديقهم برسالته، والتي لا تدع مجالاً للشكِّ أن محمدًانبيٌّ مرسلٌ لهداية الناس إلى الحقِّ، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور.
شهادة زوجات الرسول على صدق نبوته
رسول الله وزوجاته
من المعلوم أن الزوجة هي أقرب الناس لزوجها؛ فهي تعلم سِرَّه قبل علنه، وتعلم حقيقة خُلُقه دون مواربة منه أو تَخَلُّق زائف، وهذا مع الزوجة الواحدة، فما بالُنا بزوجات كثيرات بلغْنَ التسع؟ فهل من المعقول أن تتواطأ تسعٌ من النساء الضرائر -وما يُعرف عنهن من الغيرة الشديدة- على تجميل وتحسين صورة زوجهن في حياته، وبعد مماته؟!
إن العقل ينقض هذا التصوُّر، فقد تحبُّ بعضهن زوجها، وقد تكرهه الأخريات؛ لسوء معاملته لهن، أو لتقريبه لبعضهنَّ دون الأخريات، فهل كان الأمر كذلك مع رسول الله؟!
لقد كان الأمر مخالفًا لذلك تمام المخالفة بين رسول اللهوزوجاته؛ فقد كُنَّ يتسابقن للقرب منه، كلُّهن يُحببنه حُبًّا شديدًا في حياته وبعد مماته، فقد كانت منهن الكبيرة العجوز، والصغيرة المتوقدة، ومنهن شديدة الغيرة، وسريعة الغضب، لكنهن قد اجتمعن على شيء واحد، ألا وهو حبُّهن للنبي محمد.
السيدة خديجة بنت خويلد
كانت أُولَى زوجات النبي السيدة خديجة بنت خويلد –رضي الله عنها- فقد عاش معها رسول الله خمسة وعشرين عامًا كاملة، لم تَرَ منه فيها إلاَّ كل جميل؛ لذلك فعندما نزل الوحي علي رسول الله، وخاف خوفًا شديدًا ممَّا وجده من أثره في نفسه، وَقَفَتْ تُهَدِّئ من قلقه؛ فقالت له: "فوالله ما يخزيك الله أبدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ[1]، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ..."[2].
ولم يكن هذا التأييد من السيدة خديجة -رضي الله عنها- مجرد كلمات عابرة، بل كانت الحقيقة كاملة؛ فقد كانت هذه أخلاق رسول الله التي عَهِدَتْهُ عليها، فأضحت أخلاقه معها في بيته مطابقة لأخلاقه خارجه، وهذا دليل على صدق نُبُوَّتِه، وهو الأمر الذي جعل السيدة خديجة –رضي الله عنها- تشهد لرسول الله بطيب المعشر، وحُسْن الخُلق.
شهادة السيدة عائشة
وقد شهدت أصغر زوجات النبي السيدة عائشة -رضي الله عنها- بحُسن خُلقه وصدقه، وهي أعلم الناس به؛ فقد كان رسول الله يُحبُّها ويُجِلُّها، بل تُوُفِّيَ رسول الله في حجرها وبين يديها، فوصفتْ السيدة عائشة –رضي الله عنها- خُلُقَهُ قائلة: "خُلُق نَبِيِّ اللهِ كَانَ الْقُرْآنَ"[3].
شهادة أم حبيبة بنت أبي سفيان
ومن أَجَلِّ المواقف التي جاءت في كتب السيرة، التي تشهدُ احترام وتوقير أمهات المؤمنين لرسول الله، ذلك الموقف العجيب الذي حدث بين أُمِّ المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان، ووالدها أبي سفيان بن حرب زعيم قريش، وأحد ساداتها، وكان ما زال على كفره، ولم يُسْلِمْ بَعْدُ.
فحينما نقضت قريش عهدها مع رسول الله الذي أبرمته في الحُديبية، وانقضَّتْ على قبيلة خزاعة، فقتلتْ وسَبَتْ، خافت قريش من رسول الله؛ فأرسلوا أبا سفيان إلى المدينة مُسرعًا؛ ليُجَدِّد العهد بين الفريقين، لكن رسول اللهرفض طلب التجديد وعزم على فتح مكة. وموطن الشاهد هنا هو ذلك الحوار العجيب بين الابنة وأبيها، فعندما قدم أبو سفيان إلى المدينة، ذهب لزيارة ابنته بعد فراق طويل، وأعوام عديدة مَرَّت على رحيلها؛ بدايةً من هجرتها إلى الحبشة فرارًا بدينها، ونهاية بقدومها إلى المدينة، فدخل على ابنته أُمِّ حبيبة زوج رسول الله، فلمَّا ذهب ليجلس على فراش رسول اللهطَوَتْهُ عنه، فقال: يا بنيَّة، ما أدري أرغبتْ بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنِّي؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت مشركٌ... فقال: والله لقد أصابك بعدي شَرٌّ[4].
إن هذا الموقف من أم المؤمنين أم حبيبة -رضي الله عنها- يعكس التربية الإسلامية لهذه الزوجة الصالحة؛ فهي تعلم تمام العلم أن محمدًا نبيٌّ صادقٌ، وأن أباها مشرك يعبد ما لا يضرُّ ولا ينفع، فأرادتْ بهذا الفعل أن تُوقِظَهُ من غفلته التي يحيا فيها أعوامًا عديدة، فطوت الفراش -وهو انعكاسٌ عما يجيش في صدرها من مقارنة محسومة لصالح زوجها الصادق محمد- ولم تكن أبدًا لصالح أبيها المشرك الذي طالما ناصب العداء لمحمدوصحبه!
شهادة أم المؤمنين صفية بنت أخطب
ومن أعظم الشهادات على صدقه شهادة أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب زعيم يهود بني قريظة، الذي أمر رسول اللهبقتله لغدره وخيانته للعهد الذي تمَّ بينه وبين المسلمين؛ فها هي ذي –رضي الله عنها- تُحَدِّثُنَا عن خُلُقِهِ فتقول: "ما رأيتُ أحدًا قط أحسن خُلُقًا من رسول الله، لقد رأيته ركب بي في خيبر، وأنا على عجز ناقته ليلاً، فجعلتُ أنعس فتضرب رأسي مؤخرة الرَّحل، فيمسني بيده ويقول: يا هذه، مهلاً"[5].
ثم ها هي ذي تتمنَّى أن تُضَحِّيَ بنفسها فداءً لرسول الله، وأن تتألم عِوَضًا عنه؛ فعن زيد بن أسلمأنه قال: "اجتمع نساؤه في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية -رضي الله عنها-: إني والله يا نبي الله لوددتُ أن الذي بك بي... فقال النبي معلقًا على كلامها: "وَاللهِ! إِنَّهَا لَصَادِقَةٌ"[6]. بهذه الكلمات الرقيقة عَبَّرَتْ أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب عن مشاعرها تجاه النبيفي وقتٍ لا تحتاج فيه إلى مداهنته، أو اتقاء شرِّه، ولكنها مشاعر امرأة آمنت بأنه نبي مرسل؛ ولذلك خاطبته بهذه الصفة قائلة: يا نبي الله. ومن عظمة الرسول أنه يشهد على صدق مشاعرها نحوه بعدما تغامز بها بعض أزواجه.
وكذلك عاشت كل زوجاته في كنفه؛ مؤمنات قانتات، عابدات لله ربِّ العالمين، كما تَعَلَّمْنَ من محمدالرسول قبل أن يكون الزوج.
الكاتب دكتور راغب السرجانى | |
|
ابراهيم عيسى إدارة عامة
تاريخ التسجيل : 18/03/2010
| موضوع: رد: شهادات على نبوته الخميس يوليو 08, 2010 4:50 am | |
| | |
|
ذات النطاقين مشرف عام
تاريخ التسجيل : 03/06/2010
| موضوع: رد: شهادات على نبوته الخميس يوليو 08, 2010 4:53 am | |
| | |
|
حسن رجب المدير العام
تاريخ التسجيل : 12/03/2010
| موضوع: رد: شهادات على نبوته الجمعة يوليو 09, 2010 3:54 am | |
| | |
|
ذات النطاقين مشرف عام
تاريخ التسجيل : 03/06/2010
| موضوع: رد: شهادات على نبوته الجمعة يوليو 09, 2010 3:58 am | |
| | |
|