وها نحن مع رجل آخر وصحابي آخر هو عبد الله ابن مسعود أول منصدح بالقرآن وأترككم مع القصة كيف كانت
فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة إلا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد إسلامه إلى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله: { الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ(6)} ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبد الله بن مسعود الفقير المغمور..!!
ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير.. انه الزبير رضي الله عنه يقول:
" كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا: والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعوه..؟؟
فقال عبد الله بن مسعود:أنا..
قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..
قال: دعوني، فان الله سيمنعني..
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ { الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ(6)} ، ثم استقبلهم يقرؤها..
فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد.. فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ.. ثم عاد إلى أصحابه مصابا في وجهه وجسده،
فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك..
فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..
قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!
أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون إحدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!! ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب.. ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!
يقول على نفسه:" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد".. وكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في إدراك معانيه..
ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول: " تمسّكوا بعهد ابن أم عبد". ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن. يقول عليه السلام: " من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد".. " من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!! ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..
دعاه يوما الرسول، وقال له: " اقرأ عليّ يا عبد الله..
قال عبد الله: " أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله؟!
فقال له الرسول: "إني أحب أن أسمعه من غيري"..
فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعإلى: {فَكَيْفَ إِذَاجِئْنَا مِنكُ لِّأمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا(41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا(42)}.. فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده إلى ابن مسعود: أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..
وتحدث هو بنعمة الله فقال: " والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى إليه الإبل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!! ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: " لقد ملئ فقها".. وقال أبو موسى الأشعري: " لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم" ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى. يقول عنه حذيفة: " ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود... ولقد علم المحفوظون من أصحاب
ليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم إلى الله زلفى"..!!
إنه من عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه