هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة إذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة فوضعت له وضوءا فقالت له ميمونة وضع لك عبد الله بن العباس وضوءا فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه.
كان جميلا أبيض طويلا، مشربا صفرة جسيما وسيما، صبيح الوجه فصيحا.
عن مسروق أنه قال: كنت إذا رأيت عبد الله بن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا تكلم قلت: أفصح الناس، وإذا تحدث قلت: أعلم الناس.
وهو حبر هذه الأمة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (.. وإن حبر هذه الأمة لعبد الله بن عباس ) وسماه التابعون ( ترجمان القرآن ) فعن شقيق قال: خطب بن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة النور فجعل يقرأ ويفسر فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله لو سمعته فارس والروم لأسلمت.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب ونائل، وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوما ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويوما التأويل، ويوما المغازي، ويوما الشعر، ويوما أيام العرب، ولا رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلا " قط " سأله إلا وجد عنده علما.
و عن أبي صالح قال: لقد رأيت من ابن عباس مجلسا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها فخرا، لقد رأيت الناس اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا يذهب، قال: فدخلت عليه فأخبرته كأنهم على بابه فقال لي: ضع لي وضوءا قال: فتوضأ وجلس وقال لي: أخرج وقل لهم: من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أراد منه أن يدخل، قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة، قال: فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال: إخوانكم قال: فخرجوا ثم قال لي: أخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل فخرجت فقلت لهم، قال: فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، ثم قال: إخوانكم، قال: فخرجوا ثم قال لي: أخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل، قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، ثم قال: إخوانكم قال: فخرجوا ثم قال لي: أخرج فقل: من أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل، قال: فدخلوا حتى ملئوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، قال أبو صالح: فلو أن قريشا كلها فخرت بذلك لكان فخرا لها، قال: فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس.
ليلة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم:
عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: أمرني العباس رضي الله عنه قال بت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فانطلقت إلى المسجد، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة حتى لم يبق في المسجد أحد غيره قال: ثم مر بي فقال: من هذا؟ فقلت: عبد الله قال: فمه؟ قلت: أمرني أبي أن أبيت بكم الليلة قال: فالحق فلما دخل قال: أفرشوا لعبد الله قال: فأتيت بوسادة من مسوح قال: وتقدم إلي العباس أن لا تنامن حتى تحفظ صلاته قال: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنام حتى سمعت غطيطه، قال: ثم استوى على فراشه فرفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآية من آخر سورة آل عمران حتى ختمها: (إن في خلق السماوات والأرض..) ثم قام فبال ثم استن بسواكه ثم توضأ ثم دخل مصلاه فصلى ركعتين ليستا بقصيرتين ولا طويلتين، قال: فصلى ثم أوتر فلما قضى صلاته سمعته يقول: اللهم اجعل في بصري نورا واجعل في سمعي نورا واجعل في لساني نورا واجعل في قلبي نورا واجعل عن يميني نورا واجعل عن شمالي نورا واجعل أمامي نورا واجعل من خلفي نورا واجعل من فوقي نورا واجعل من أسفل مني نورا واجعل لي يوم لقاءك نورا وأعظم لي نورا.
وفي مجلس الفاروق:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دعا الأشياخ من أصحاب
ليه وسلم دعاني معهم، فدعانا ذات يوم أو ذات ليلة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ما قد علمتم؛ فالتمسوها في العشر الأواخر، ففي أي الوتر ترونها؟ فقال بعضهم: تاسعه، وقال بعضهم: سابعه وخامسه وثالثه، فقال: مالك يا بن عباس لا تتكلم؟ قلت: إن شئت تكلمت، قال: ما دعوتك إلا لتكلم، فقال: أقول برأي؟ فقال: عن رأيك أسألك، فقلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى أكثر ذكر السبع فقال: السماوات سبع والأرضون سبع، وقال: إنا شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا، فالحدائق ملتف وكل ملتف حديقة، والأب ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس، فقال عمر رضي الله عنه: أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه؟ ثم قال: إني كنت نهيتك أن تكلم فإذا دعوتك معهم فتكلم.
حرصه على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عباس أنه طاف مع معاوية بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال له بن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا، فقال بن عباس: [لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة] فقال معاوية: صدقت
وروى أن عبد الله بن صفوان بن أمية مر يومًا بدار عبد الله بن عباس بمكة فرأى جماعة من طالبي الفقه، ومر بدار عبيد الله بن عباس فرأى فيها جماعة ينتابونها للطعام، فدخل على ابن الزبير فقال له: أصبحت والله كما قال الشاعر:
فإن تصبك من الأيام قارعة... لم نبك منك على دنيا ولا دين
قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان ابنا عباس أحدهما يفقه الناس والآخر يطعم الناس؛ فما أبقيا لك مكرمة، فدعا عبد الله بن مطيع وقال: انطلق إلى ابني عباس فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: اخرجا عني أنتما ومن أصغى إليكما من أهل العراق وإلا فعلت وفعلت، فقال عبد الله بن عباس لابن الزبير: والله ما يأتينا من الناس إلا رجلان: رجل يطلب فقها، ورجل يطلب فضلا، فأي هذين تمنع؟
في مجلس معاوية:
عن ربعي بن حراش قال: استأذن عبد الله بن عباس على معاوية وقد تحلفت عنده بطون قريش وسعيد بن العاص جالس عن يمينه، فلما نظر إليه معاوية قال: يا سعيد، والله لألقين على بن عباس مسائل يعيى بجوابها، فقال له سعيد: ليس مثل بن عباس يعيى بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أبي بكر؟ قال: رحم الله أبا بكر، كان والله للقرآن تاليا وعن الميل نائيا، وعن الفحشاء ساهيا وعن المنكر ناهيا، وبدينه عارفا ومن الله خائفا، وعن المهلكات جانفا وبالليل قائما وبالنهار صائما، ومن دنياه سالما وعلى عدل البرية عازما وبالمعروف آمرا وإليه صابرا، وفي الأحوال شاكرا ولله في الغدو والآصال ذاكرا، ولنفسه بالمصالح قاهرا، فاق وراق أصحابه ورعا وكفافا وزهدا وعفافا وبرا وحياطة وزهادة وكفاية؛ فأعقب الله من ثلبه اللعائن إلى يوم القيامة.
قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: رحم الله أبا حفص، كان والله حليف الإسلام ومأوى الأيتام ومحل الإيمان، وملاذ الضعفاء ومعقل الحنفاء، للخلق حصنا وللناس عونا، قام لحق الله صابرا ومحتسبا حتى أظهر الله به الدين وفتح الديار، وذكر الله في الأقطار والمناهل وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع، وعند الخنا وقورا وفي الرخاء والشدة شكورا ولله في كل وقت وآناء ذكورا، فأعقب الله من تنقصه اللعنة إلى يوم الحسرة.
قال معاوية: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة وأفضل البررة وأصبر القراء، هجادا بالأسحار كثير الدموع عند ذكر الله، دائم الفكر فيما يعنيه الليل والنهار، نهاضا إلى كل مكرمة سعاء إلى كل منجية فرارا من كل موبقة، وصاحب الجيش والبئر وختن المصطفى على ابنتيه؛ فأعقب الله من سبه الندامة إلى يوم القيامة.
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: رحم الله أبا الحسن، كان والله علم الهدى وكهف التقى، ومحل الحجا وطود النهى ونور السرى في ظلم الدجى، وداعية إلى الحجة العظمى، عالما بما في الصحف الأولى، وقائما بالتأويل والذكرى متعلقا بأسباب الهدى وتاركا للجور والأذى، وحائدا عن طرقات الردى، وخير من آمن واتقى، وسيد من تقمص وارتدى، وأفضل من حج وسعى، وأسمح من عدل وسوى، وأخطب أهل الدنيا إلا الأنبياء والنبي المصطفى وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحد؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تر عيني مثله ولا ترى حتى القيامة واللقاء؛ فمن لعنه فعليه لعنة الله والعباد إلى يوم القيامة.
قال: فما تقول في طلحة والزبير؟ قال: رحمة الله عليهما، كانا والله عفيفين مسلمين برين طاهرين مطهرين، شهيدين عالمين زلازلة، والله غافر لهما إن شاء الله بالنصرة القديمة والصحبة القديمة والأفعال الجميلة، قال معاوية: فما تقول في العباس: قال: رحم الله أبا الفضل، كان والله صنو رسول الله وقرة عين صفي الله، لهم الأقوام وسيد الأعمام، قد علاه بصر بالأمور ونظر في العواقب، قد زانه علم قد تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأنساب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دب وهب؟ عبد المطلب أفخر من مشي من قريب وركب.
قال معاوية: فلم سميت قريشا؟ قال: بدابة تكون في البحر هي أعظم دواب البحر خطرا، لا يظفر بشيء من دواب البحر إلا أكلته؛ فسميت قريش لأنها أعظم العرب فعالا، فقال: هل تروي في ذلك شيئا؟ فأنشده قول الجمحي:
وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تترك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في الكتاب حي قريش يأكلون البلاد أكلا كشيشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموش
علا الأرض خيله ورجاله يحشرون المطي حشرا كميشا
قال معاوية: صدقت يا بن عباس، أشهد أنك لسان أهل بيتك، فلما خرج بن عباس من عنده قال لمن عنده: ما كلمته قط إلا وجدته مستعدا.
عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال سعيد: يا بن عباس، إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، فقد وقع في صدري، فقال بن عباس: تكذيب؟ فقال الرجل: ما هو بتكذيب ولكن اختلاف، قال بن عباس: فهلم ما وقع في نفسك، فقال له الرجل: أسمع الله يقول: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)، وقال في آية أخرى: (ولا يكتمون الله حديثا)، وقال في آية أخرى: (والله ربنا ما كنا مشركين)؛ فقد كتموا في هذه الآية، وفي قوله: (والسماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها) فذكر في هذه الآية خلق السماوات قبل خلق الأرض، ثم قال في هذه الآية الأخرى: (أئنكم لتكفرون بالذي خلق السماوات والأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل خلق السماء، وكان الله غفورا رحيما وكان الله عزيزا حكيما وكان الله سميعا بصيرا؛ فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: هات ما في نفسك، قال السائل: إذا أنباتني بهذا فحسبي، فقال بن عباس: قوله: (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) فهذا في النفخة الأولى؛ ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم إذا كان في النفخة الأخرى قاموا فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فأما قوله: (والله ربنا ما كنا مشركين) وقوله: (ولا يكتمون الله حديثا) فإن الله عز وجل يغفر يوم القيامة لأهل الإخلاص ذنوبهم ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركا، فلما رأى المشركون ذلك قالوا: إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك، فقالوا نقول: إنما كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله عز وجل: أما إذ كتمتم الشرك فاختموا على أفواههم فختم على أفواههم؛ فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك عرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا؛ فعند ذلك يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا.
وأما قوله: (والسماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها) فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم نزل إلى الأرض فدحاها، ودحاها أن أخرج فيها الماء والمرعى وشق فيها الأنهار؛ فجعل فيها السبل وخلق الجبال والرمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: (والأرض بعد ذلك دحاها).
وقوله: (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وجعلت السماوات في يومين، وأما قوله: (وكان الله غفورا رحيما) (وكان الله عزيزا حكيما) (وكان الله سميعا بصيرا)؛ فإن الله عز وجل سمى نفسه ذلك ولم ينحله غيره، وكان الله إي لم يزل كذلك، ثم قال للرجل: احفظ عني ما حدثتك، واعلم أنما أختلف عليك من القرآن أشياء ما حدثتك؛ فإن الله عز وجل لم ينزل شيئا إلا قد أصاب به الذي أراد ولكن الناس لا يعلمون؛ فلا يختلفن عليك فإن كلا من عند الله.
عن بن عباس رضي الله عنهما قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي مليا، ثم التفت فقال: يا غلام، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه؛ فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر؛ فإن في الصبر على ما تكرهه خيرا كثيرا، واعلم أن مع الصبر النصر، واعلم أن مع الكرب الفرج، واعلم أن مع العسر اليسر.
ومن أقواله:
عن أبي سلمة الحضرمي قال: سمعت بن عباس يقول: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدا منهم إلا سُرَّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أبي بن كعب يوما وكان من الراسخين في العلم عما نزل من القرآن بالمدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة وسائرها بمكة.
و عن ان عباس قال: إذا أتيت سلطانا مهيبا تخاف أن يسطو بك فقل: الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعا، الله أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي لا إله إلا هو، الممسك السماوات السبع أن تقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والأنس، إلهي كن لي جارا من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك ولا إله غيرك، ثلاث مرات.
وهو القائل في ذلك فيما روي عنه من وجوه:
إن يأخذ الله من عيني نورهم... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وفاتـه:
عن سعيد بن جبير قال: مات بن عباس بالطائف فشهدت جنازته فجاء طير لم ير على خلقته ودخل في نعشه، فنظرنا وتأملنا هل يخرج فلم ير أنه خرج من نعشه، فلما دفن تُليت هذه الآية على شفير القبر ولا يدري من تلاها: [يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي] قال: وذكر إسماعيل بن علي وعيسى بن علي أنه طير أبيض.
مات عبد الله بن عباس سنة ثمان وستين، وهو ابن إحدى وثمانين سنة رضي الله عنه.
إضافات:
وله في تفسير القرآن بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم جهد كبير، فقلما تمر آية إلا وله تفسير لها، وقد جمع له محمد بن يعقوب الفيروزآبادي كتاباً في تفسير القرآن الكريم من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، اسمه: (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس).
وكان ابن عباس من الرجال المشهود لهم بالفضل وسعة العلم، وله فضائل مشهودة ومناقب مذكورة، وله مجلس يستقبل فيه الناس، فكان يجعل أيامه يوماً للفقه، ويوماً للتأويل، ويوماً للمغازي، ويوماً للشعر والأدب، ويوماً لوقائع العرب، وله أقوال كثيرة في الحكمة والنصيحة منها: (خذ الحكمة ممن سمعت، فإن الرجل يتكلم بالحكمة وليس بحكيم، فتكون كالرمية خرجت من غير رام)، وكان ممدحاً من الناس والشعراء، وقد أثنى عليه عدد من الرجال منهم: عمر بن الخطاب الذي يقول عنه: (ذلك فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول)، وقال القاسم بن محمد: (ما سمعت في مجلس ابن عباس باطلاً قط، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه)، ومدحه شاعر الرسول عليه السلام حسان بن ثابت بقوله:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه --- رأيت له في كل أقواله فضلا
إذا قال لم يترك مقـالاً لقائل --- بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
وقال أبو الطفيل الكناني فيه:
كنا نجيء ابن عباس فيسمعنا --- فقهاً ويكسبنا أجراً ويهدينا
إلى غير ذلك من أقوال الحكماء والشعراء فيه.
وقد كف بصره في آخر عمره، وروي أنه رأى رجلاً مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقال له عليه السلام: " أرأيته؟ قال: نعم، قال: ذلك جبريل، أما إنك ستفقد بصرك، فلما حصل له ذلك جعل يقول:
إن يأخـذ الله من عيني نورها --- ففـي لساني وقلبي منهمـا نور
قلبي ذكيّ وعقلي غير ذي دخل --- وفي فمي صارم كالسيف مأثور
ولما حصلت الفتنة بين عبد الله بن الزبير في مكة وعبد الملك بن مروان في دمشق سنة 67هـ وأعلن ابن الزبير الخلافة في مكة والحجاز، لم يبايعه عبد الله بن عباس في بداية الأمر فغضب ابن الزبير وضايقه، فانتقل عبد الله إلى الطائف وأقام فيها حتى وفاته عام 68هـ ودفن فيها وقبره معروف، وصلى عليه ابن عمه محمد بن الحنفية وقال عنه: اليوم مات رباني هذه الأمة، رحمه الله ورضي عنه.
وبعث الإمام علي -كرم الله وجهه- ابن عباس ذات يوم إلى طائفة من الخوارج، فدار بينه وبينهم حوار طويل، ساق فيه الحجة بشكل يبهر الألباب فقد سألهم ابن عباس: (ماذا تنقمون من علي؟)...
قالوا: (نَنْقِم منه ثلاثا: أولاهُن أنه حكَّم الرجال في دين الله، والله يقول: إن الحكْمُ إلا لله، والثانية أنه قاتل ثم لم يأخذ من مقاتليه سَبْيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا فقد حلّت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حُرِّمَت عليه دماؤهم، والثالثة رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين استجابة لأعدائه، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين)...
وأخذ ابن عباس يُفَنّد أهواءهم فقال: (أمّا قولكم إنه حَكّم الرجال في دين الله فأي بأس؟... إن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتُلوا الصَّيْد وأنتم حُرُم ومن قتَله منكم مُتَعمدا فجزاء مِثلُ ما قَتَل من النعم يحكم به ذوا عَدْل منكم}...
فَنَبئوني بالله أتحكيم الرجال في حَقْن دماء المسلمين أحق وأوْلى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم؟!... وأما قولكم إنه قاتل فلم يسْبُ ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سَبْياً ويأخذ أسلابها غنائم؟؟...
وأما قولكم أنه رضى أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله رسول الله يوم الحديبية، إذ راح يُملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش فقال للكاتب: (اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)...
فقال مبعوث قريش: (والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صَدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك، فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله)... فقال لهم الرسول: (والله إني لرسول الله وإن كَذَّبْتُم)...
ثم قال لكاتب الصحيفة: (اكتب ما يشاءون، اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله)... واستمر الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز، وما كاد ينتهي النقاش حتى نهض منهم عشرون ألفا معلنين اقتناعهم، وخروجهم من خُصومة الإمام علي...