ذات النطاقين مشرف عام
تاريخ التسجيل : 03/06/2010
| موضوع: النبى موسى كليم الله الأربعاء يونيو 23, 2010 11:51 pm | |
| * آيات وإنذارات
ولايترك نبي الله موسى مناسبة تمرُّ دون أن يدعوَ فرعون وملأه إلى الإيمان بالله، بالحسنى، والقول الطيِّب، ويرغب موسى فرعون، كالمكافئ له إن آمن، فهو يضمن له، على الله، دوام ملكه لاينقُصُ منه شئ، وصحته، لايصيبها شئ، وأن ينسأ بأجله (أي يطيل عمره) إلى الضعفين، ولامن مجيب!.. بل لجاجة في الطغيان، وفي العمى.. {فإنّها لاتعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فيحذرهم موسى سوء المصير، ووخيم العواقب، فلايرعوون، بل يزدادون عتواً ونفوراً.
وتكرّ سبحة العذاب:
وكان أول إنذار من الله لهم، نقص في الاموال، والانفس، والثمرات.. فلم يعُد نهر النيل، كما كان يفيض خيراً عميماً، وبركة وعطاء جمّاً، بل شحّ ماؤه، ونضب عطاؤه. فعمّ القحط والجدب البلاد. ثم لاتلبث السماء أن تفيض عليهم بالمطر الغزير يهطل مدراراً دون انقطاعٍ، فيأتي الطوفان، ويعمُّ ضررهُ البلاد والعباد..
ويرتفع إذ ذاك صوت آل فرعون، والمصريين، ويُقبلون على موسى مستصرخين، مستنجدين، مولولين، يجأرون مستغيثين:
- {.. ياموسى.. ادعُ لنا ربُّك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا الرجز (أي: العذاب). لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل}.
- أحقاً ذلك، وعهداً؟..
- إي وربِّ بني إسرائيل!
فيرفع موسى يديه الكريمتين إلى السماء داعياً، فيستجيبُ له الله الدعاء.
وتمضي أيام، وتكُرُّ أعوامٌ،.. فيتدفَّقُ نهرُ النيل، كما كان، يحملُ الخِصبَ لأرض مصر، ويهب لها الحياة فمصر هبة النيل!. وتخضوضرُ الأرض، وتزهو بيانع النبت والثمر، وتضحك الجنائن عن متألّق الزهر، وكأنَّ شيئاً لم يكن!.
ويُطالب موسى القوم بالوفاء بوعودهم، فيستهزئون به، وهم ناكثون!.
{فلما كشفنا عنهم الرجز الى أجل، هم بالغوه، إذا هم ينكُثون}. ويزدادون كفراً.
ويغضب موسى. ويغضب لغضبهِ اللهُ!..
فأرسل الجراد عليهم، يأتي على الأخضر واليابس. فإذا بأرضهم يباب موات!. ثم سلط عليهم القمل، فلم يهنأوا في رُقاد، وقد أقضَّ مضاجعهم، وهو ينهش بجلودهم نهشاً. ثم نغَّص الله عليهم حياتهم بالضفادع، فكانت تمتلئ بها بيوتهم، وأماكن تواجدهم، وأواني طعامهم وشرابهم، حتى أنها كانت تتغلغل بين ملابسهم..
وكانوا في كل مرة، كما في الأولى، يستصرخون موسى فيصرخهم (أي: يلبّي نداءهم وينجدهم) فيعدونه ويعاهدونه، وكانوا، عندما يرفع الله عنهم الرجز بدعوة موسى، ويبعد عنهم العذاب، يعودون لغيّهم، وضلالهم وقد نكثوا عهودهم وأخلفوا وعودهم!. ويُختم هذا البلاء بالدم الرعاف من أنوفهم، فاصفرت ألوانهم وبهتت هيئاتهم..
ثم، بالدم يلاحقهم عند كل مشرب هم واردوه!..
يكون الماء في الكأس، أو غيره، أمام أحدهم صافياً زلالاً، كالفضّة السائلة، وما أن يرفعه ويقدمه إلى فيه ليشرب، حتى يتحول الماء دماً عبيطاً!.. فيعافه، ويبقى على ظمئه عطشاناً..
حتى أن المرأة من بني اسرائيل، كانت تتناول الماء بفيها، وتزقّه فم المرأة الفرعونية، كالطير يزق فرخه، فيتحول في الفم الآخر دماً،...
ومرة أخيرة يستصرخون، مظهرين الندم، قاطعين الوعود، مشهدين إله موسى وبني إسرائيل على صدق دعواهم، هذه المرة، فيصرخهم موسى، ويرفع الله عنهم هذا الرجز المرير، وهو الذي يُمهل ولايهملُ!.. ولكنّ نزعة الشرِّ كانت قد تمكنت في نفوسهم، وتأصّلت، وتجذرت حتى عميق الأعماق. فلم يحاولوا الإقلاع عمّا أدمنوا عليه من السجايا القباح!. بل عادوا لما كانوا عليه من نكثٍ ونُكرانٍ، وجحودٍ، وتكذيب بآيات الله واستهزاءٍ برسله وبالمؤمنين...
{وقالوا: مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين!}
ويعود موسى فينذرهم إنذاراً نهائياً، لاعودة منه، فذهبت صرختُهُ أدراج الرياح. فييأس منهم موسى، ويقطع من إصلاحهم كل أمل ورجاء.
ولشدة مالاقى منهم من عنت ومن قهر، يدعو الله أن يطمس على اعينهم ويشد على قلوبهم، {فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم}.
فيستجيب الله لنبيّه دعوته!...
- {أفبعذابنا يستعجلون؟}.
*خروج موسى وجماعته من مصر وغرق فرعون وقومه
ويهبط الوحي على موسى، يأمره وقومه، أن يتأهبّوا لمغادرة ارض مصر، فليس لهم بعد اليوم فيها مقام. فخرج معه نفر من المؤمنين، وتخلّف آخرون!...
وسخّر الله على مدينة فرعون ريحاً عاتية، ألزمتهم منازلهم ثلاثة أيام لم يستطيعوا الخروج منها. وفي اليوم الرابع تفقّد جند فرعون بني إسرائيل، فوجدوهم قد غادروا المدينة، لم يتخلف منهم إلاّ القليل. وعلم فرعون بالأمر فاستشاط غضباً وحنقاً، مقسماً على الانتقام منهم، فستنالهم يداه، مهما بعدوا عنه، هرباً!.
- فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون. وإنّهم لنا لغائظون. وإنّا لجميعٌ حاذرون}..
واتّبع بني إسرائيل، فأنّي لهم أن يُعجزوه طلباً!... وأمر الله موسى أن يتبع اتّجاه الرياح، ففعل!.. وعجب بنو إسرائيل من هذه الطريق الغريبة يسلكها بهم موسى، وهي بمنأى عن دُروب القوافل والمسافرين.
وماهي إلاّ ساعات، حتى كانوا أمام البحر وجهاً لوجهٍ. فعلا صراخهُم، واحتجاجهُم، وتذمُّرُهُم، وقد دخل الشكُّ قلوبهم، فلم يغادرها، ولن!.. فاستمهلهم موسى، داعياً إياهم -كما في كل مرة- إلى الصبر والأناة. فإلى الله الرجعى!..
وتراءَت لهم جيوش فرعون من بعيد، يملأون الأفق عدّة وعدداً.. فأيقنوا بالهلاك، وساد صفوفهم هرج ومرج، وذعُر وصخب. وأحاطوا بموسى، يلومون:..
- أإلى الهلاك تقودُنا ياموسى، هانحنُ أولاء بين البحر وفرعون، فأين سدادُ رأيك،؟.. بل أين ماوعدّك ربُّك يا موسى؟..
ويعود يدعوهم إلى مزيد من الصبر والتوكُّل على الله، فهو منجيهم، ولن يروا، بعد اليوم، من فرعون وجنده أحداً!..
ويرتفع صوت ظريف منهم، بخبثٍ: الحقَّ تقول ياموسى. فبعد هلاكنا على أيديهم لن نرى منهم أحداً أبداً
ويجيبه موسى: بل الله مهلِكهُم جميعاً!..
{ فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون. قال كلاّ إنّ معي ربي سيهدين}.
وعندما غربت الشمس، أرسل الله مايشبه السحابة المضيئة، وكأنها تلتهب. فانتصبت في الجو كعمود من نار ونور آضاء كل شئٍ. فبدّد غياهب الظلام، وموسى وقومُه واقفون أمام البحر حيارى. بوجومٍ وذهول!..
{ فأوحينا إلى موسى ان اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}.
وكانت المعجزة.. وقد انشق البحر عن اثني عشر طريقاً!..
وعلت مياه البحر المتجمّدة فكانت كالجبال الثوابت، وتقدّم موسى قومه يسلُكُ بهم هذه السبل العجيبة، عابرين إلى الضّفّة الثانية، وقد جعل الله في هذه المياه المتجمدة العالية مايشبه الكوى (جمع. كوّة). فكانوا يشاهدون بعضهم بعضاً، وهم يعبرون، وكانوا يتحادثون مستأنسين!..
وتبعهم فرعون بجنوده مقتفياً آثارهم في البحر المنشقّ لهم، وقد علت أهازيج جنده وصيحاتهم. ظناً منهم بأنّ البحر انشق لفرعون بقدرته!. وكان بنو إسرائيل قد اتمّوا عبورهم إلى الضفة الثانية. وإذا بصوت كالرعد القاصف، فالتفتوا خلفهم، فإذا بالبحر قد أطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين! ولما أيقن فرعون بالغرق، قال {.. آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي لآمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}. ويجيبه صوت: آلان؟.. بعدما فات الأوان، فلا إيمان لمن فاته- في ماسلف من عمره- الإيمان!.. واتجه موسى ببني إسرائيل، وجهه الديار المقدسة، مشرقين، مخلِّفاً وراءه جيش أعدائه في اليم غرقى. وقد قاء البحر جثة فرعون إلى الشاطئ. فهذه نهاية كل متكبر جبار لا يؤمن بيوم الحساب!.
ويشاهد الخلقُ جثة فرعون ملقاةً على الشاطئ، سليمةً، وقد بدأ يدب فيها الفساد ويسرع إليها النتن، فيقول قائلهم:
- أين ألوهيتك يافرعون مصر؟ وأين عزتك القعساء؟ وأين سلطانك والكبرياء؟ إنها حكمة الله التي أبت إلاّ أن يظهر الحق جلياً كفلق الصبح.
{فاليوم نُنجِّيك ببدنك لتكون لمن خلّفك آية}.
ويحملون الجُثة عائدين بها إلى عاصمة الفراعنة. ويحنطونها، كي تبقى أبد الدهر شاهدة على وحدانية الله الواحد القهار، وأخذه مدعي الربوبية أخذة رابية!. بالمناسبة. فقد اختلف بعض المؤرخين حول شخصية فرعون مصر، فرآه بعضهم أنه فرعون آخر غير رمسيس، الذي نحن بصدده،... ويأبى الله إلاّ إظهار ساطع برهانه فهاهي ذي جثة الفرعون الآخر هذا، لازالت محفوظة بالتحنيط، ومسجاة إلى جانب جثة رمسيس، آية من الله لأولي النهى، وعبرةً لمن أبصر فوعى.
مما دعا بعض كبار علماء الآثار الغربيين إلى الإسلام انطلاقاً من الآية السالفة.. فأياً كان منهما، صاحب موسى، الذي ادّعى الألوهية... فها هي جثته معروضة لكل ذي عينين، أو ألقى السمع وهو منيب!..
* ميقات موسى وردّة بني إسرائيل
ومر بنو إسرائيل على قوم يعكفون على أصنامهم (يحيطون بها) يعبدونها من دون الله. فانقدح الشك في قلوبهم، وحنّوا إلى قديم وثنيّتهم، وقالوا لنبيّهم موسى:
- {.. ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ. قال: إنّكم قومٌ تجهلون. إن هؤلاء متبّرٌ (أي: مدمّر) ماهم فيه وباطل ماكانوا يعملون}.
والحّوا عليه، فصاح بهم: {أغير الله أبغيكم ربّاً وهو فضّلكم على العالمين؟..}.
وسأل موسى ربّه كتاباً يكون نوراً لبني اسرائيل، وهدى. لهم، لقلقهم، وما فطروا عليه، من العناد والعصيان لايكادون يستقرّون على الرأي الحق، ولمّا يدخل الايمان قلوبهم، بعدُ!.. فيأمره ربُّه بالطهور والصيام، ويواعده أربعين ليلة، يكلّمه بعدها، ويناجيه.
ولكن موسى كان على عجلة من أمره فقبل أن يتم أربعين ليلة كما واعده ربُّه اختار من قومه سبعين رجلاً صالحاً، وسبقهم إلى طور سيناء، بعد أن استخلف أخاه هارون على قومه، موصياً إيّاه بالصلاح فيما بينهم والإصلاح، مشدداً عليه: {اخلفني في قومي، ولاتتبع سبيل المفسدين}.
ويسأل الله نبيّه عن سبب استعجاله دون قومه:
- {وما أعجلك عن قومك ياموسى؟.}
فيجيب: -{هم أولاء على أثري. وعجلت إليك ربِّ، لترضى}.
ويأبى الله إلاّ أن يُتم ميقاته (أي: ميعاده) فعاد موسى، فأتمَّ عشر ليالٍ أخريات، حتى تصرّمت (أي مضت وانقطعت) أربعون ليلةً تماماً، كما قدّر الله لذلك وقضى!. وعاد موسى إلى ميقات ربِّه مسرِعاً، وقدماه تنهبان الأرض نهباً، لفرط حنينه للقاء مولاه، وولهه، وشدة شوقه وشغفه.
ويستبدُّ بموسى الشوق الشغوف، ومبرّح التوقِ، والوجدِ، والانجذاب،.. فيسأل ربّه شيئاً عظيماً، أليس هو أقرب خلقِه إليه، يحادثه، ويكلِّمه، ويناجيه، بصفاءِ محبةٍ، ومحضِ وَدادٍ؟..
لنستمع إليه تعالى يقصُ علينا هذه الطُّرفة:
{ ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلّمه ربه، قال: رب أرني أنظر اليك. قال: لن تراني. ولكن انظر الى الجبل فان استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربُّهُ للجبل جعلهُ دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال سبحانك، تبت إليك، وأنا أول المؤمنين}..
ويتوب الله على موسى، وقد تجرأ على طلب ماليس له بحقٍّ، وما لاقُدرة له عليه، ولا احتمال!.. ويُناوله الألواح فيها أحكام كل شئٍ مفصّلاً، وموعظةٌ، وهدىً، ورحمةً لبني إسرائيل. ثم يخبرهُ بأنّ قومه ضلُّوا، وقد فتنهُم "السَّامري"، {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً!}. وإذا بهم متحلِّقون حول عجلٍ من ذهبٍ، يهزجون حوله، طربين، متعبِّدين. فعلم أنهم بالفتنة سقطوا وأقبل عليهم موبخاً ومؤنّباً، وثار غضبه، وفار.. وألقى الألواح المقدَّسة التي كان يحملها إليهم، أرضاً، فتحطَّمت، فاشتعل غضباً، وتميَّز غيظاً،. {فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً؟..}.
ووقعت عينُه على أخيهِ هرونَ، فأسرعَ إليه معنِّفاً، ممسكاً بشعره الكثِّ، ولحيتِه الطويلة، يجرّه بها إليه جراً عنيفاً، فصرخ هرون من فرط جزع وفزع:
{.. قال ابنَ أُمَّ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تُشمت بي الاعداء ولاتجعلني مع القوم الظالمين}.
فرجع موسى إلى نفسه، {قال: ربّ اغفر لي، ولأخي، وأدخلنا في رحمتك، وأنت أرحمُ الراحمين}.
وأيقن من جليّة الأمر، فقد عصى القومُ هارون الذي حذّرهم من مغبّة الوقوع في الفتنة، وعصيان خالقهم، وماكان بقاؤه فيهم على ماهم عليه من التمرد، والنفاق، والزيغ (أي: الميل إلى الباطل) إلا حفاظاً على وحدتهم، ولمِّ شعثهم.
والتفت موسى إلى "السامريِّ": فما الأمرُ؟..
ويجيب السامري: لقد شاهدتُ مالم يتسنَّ للقوم أن يشاهدوه، فقبضتُ حفنةُ تراب من أثر الملاك جبريل، وجمعتُ ما يحملُ بنو إسرائيل من حليِّ الذهب، وقذفتُ ذلك كلّه في حفرة، أجّجتها ناراً، وصنعت من ذلك {عجلاً جسداً له خوار}، اتّخذه بعضُ بني إسرائيل إلهاً!..
ورمقهم موسى بعين غضبى، فأطرقوا ندماً وخجلاً!..
ويهبُّ موسى لمعالجة الأمر سريعاً. ويأمرُ بالعجل، فتُرسلُ عليه النار، فتحرُقُهُ، وتفتِّتُهُ تفتيتاً، وتهب ريح تذروه في البحر، هباءً منثوراً..
وأمر بالسامري منبوذاً، لايدنو من الناس، ولايقربُه الناس، ولايمسُّه أحدٌ أبداً.
وأمر قومه بالتوبة، وقتل أنفسهم، ولعلَّ المقصودُ بذلك كسرَ حدَّتها، وكبتَ شهواتِها، وكبح رغائبها، وتطهيرها وتزيكتها، ففعلوا ماأُمرُوا به، وتاب الله عليهم جميعاً!..
وعاد موسى إلى ميقات ربّه، من جديد، بعد أن اختار من قومه - كما فعل آنفاً- سبعين رجلاً ولما وصلوا الى الجبل، زلزلت الارض بهم زلزالاً شديداً. فصاح عندئذ موسى متضرعاً وجلاً:
- {.. رب، لو شئت أهلكتهم من قبل، وإيّاي. أتُهلكنا بما فعل السفهاء منّا؟..}.
فتشملهم رحمة الله،.. وتستقر الارض تحت أقدامهم، وتهدأ، فيهدأون!..
وعاد موسى يدعو قومه الى اجتماع ليبين لهم ما أنزل الله من أحكام إقامة صلاة وتأدية زكاة، وكانت الدعوة أمام سفح الجبل، فلم يسمعوا له قولاً. فتزلزل الجبل فوقهم، وتناثرت حجارته عليهم، فسمعوا عندئذ قول موسى!..
* التيـــه
ويقود موسى قومه إلى أرض الميعاد في فلسطين، لعلهم يلقون فيها عصا ترحالهم، بعد عنائهم الطويل ويصيبهم في الطريق الظمأ، فيصرخون: ياموسى.. الماء، الماء!..
{وأوحينا الى موسى إذ استسقاه قومه، أن اضرب بعصاك الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم!}. فارتووا!..
وكان هجيرٌ قائظ، فأرسل الله فوقهم الغمام، يظللهم من لفح الشمس، ويكسر حدة الرمضاء. ثم أدركهم الجوع، فصاحوا: ياموسى.. الطعام، الطعام، فأرسل الله لهم المنّ والسلوى، {كلوا من طيبات ما رزقناكم}، دون طغيان، ولا جحود ولاكفران!..
وتابع طريقه موسى، ووجهة سيره "أريحا" لمواجهة من فيها من عتاة الكنعانيّين والحثّيّين. فاستسلم بنو إسرائيل إلى خور العزيمة، ودبّ فيهم الوهن، وقالوا:
- {.. إنّ فيها قوماً جبّارين. وإنّا لن ندخلَ حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون!}.
فهاله ماهم عليه من التقاعس، والجبن. وأخذ يحبب إليهم القتال في سبيل الله ويرغّبهم بالجهاد، فكان كمن ينفخ في رماد، أو، كمن يصرخ في وادٍ!..
ثم صارحوه بجليّ أمرهم، وما انطوت عليه نفوسهم من خبثٍ، ولؤم طباعٍ:
- {.. ياموسى، إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، أنّا ها هنا قاعدون}.
فأيقن عندئذٍ موسى بأن قومه قد غرقوا في بحر الضلالة والخذلان، والعصيان، والغيّ الموفي بأهله على النار، فرفع بصره الى السماء، وقلبه يكاد يتفطّر قائلاً: {ربّ، إنّي لاأملك إلا نفسي وأخي}. نافضاً يديه منهم أجمعين!..
وكان جزاء تقاعسهم، وخور عزيمتهم، أن ظلّوا يتيهون في (أرض التيه)، حيارى، لايهتدون إلى معالم طريق، مدة أربعين سنة، هلك خلالها كل هذا الجيل المتهاوي، المتهالك على نفسه، الذي ما أن يؤمن حتى يعود إلى الكفر من جديد،.. لينهض على أنقاضه جيل منيع عزيز،.. لايسأم الجهاد، وركوب متون (أي: ظهور) الحرب والقتال!..
* وفاة موسى، وظهور يوشع بن نون نبيّاً جديد:
ولما شعر موسى(عليه السلام) بدنّو أجله، نظر في أمور قومه، فأحسن تنظيم أوضاعهم، خاتماً فيهم رسالته ناظراً بعين الغيب إلى نبيٍّ جديد، يرسله الله إلى أهل مكة ومن حولها فيخرجهم من الظلمات الى النور!..
ثم غادرهم، وهم عنه غافلون، تجرّهُ قدماه في عمق الصحراء، وخيالهُ يلتهب بذكريات، وما أكثرها.. ومعظمها لاسع كالجمر المتّقد. وفيها كل غريب وطريف، فهي لاتبرح خياله أبداً.
وإن نسي، فلن ينسى منها ثلاثاً:
- الأولى: قصته مع الخضر: وسبب ذلك، أن نفس موسى حدّثته يوماً بأنه أعلم من على وجه الأرض، إنساناً! فصدّقها، وجاراها في دعواها. أليس هو نبيّ الله، وكليمه، ورسوله. فمن أقرب إلى الله من موسى؟. فاوحى الله تعالى إليه: إنّ من عبادي من هو أوسعُ منك إحاطةً، وعلماً!..
ويسأل موسى ربّه مستغرباً، من هو ياسيّداه؟
فيجاب: أنه عبدي الصالح، عند (مجمع البحرين).
فيشدُّ إليه موسى عصا الترحال، يبتغي مقابلته، والتعلُّم منه. وقد اصطحب معه فتاه، ويجتمع موسى بالعبد الصالح هذا،.. ويرى على يديه خوارق ومعجزات لا يستطيع الانسان العاديّ إلاّ إنكارها. وكذلك فعل موسى!..
وفي نهاية المطاف -(كما ورد في سورة الكهف، الآيات: 60-82)- يشرح الخضر لنبي الله موسى حكمة الله من كل ماقام به من تصرفات. إنّه التأويل لبواطن الأمور، لاتفسير ظاهرها!... ويشعر موسى بضآلة علمهن وهو النبي المجتبى، أمام ما أوتيه العبد الصالح حكمةً وعلماً!..
- الثانية: قصة بقرة بني إسرائيل: وكان ذلك عند ماقُتل أحد رجالهم، ولم يعرفوا قاتله. فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة -(كما ورد في سورة البقرة. الآيات: 77-83)- وأخذ بنو إسرائيل يستقصون من نبيّهم موسى عن ماهيتها، وصفاتها، ولونها.. لجاجاً منهم وعناداً! واهتدوا بعد لأيٍ (أي: جهد ومشقة) إليها، ولم يستطيعوا ابتياعها، إلاّ بعد أن دفعوا مبلغاً من الذهب، كبيراً... يُضاف إلى ذلك جدهم في طلبها، حيرتهم، حتى اهتدوا إليها، بعد شهور طوال، من التفتيش والتنقيب، ولو أنهم آمنوا بالله ورسوله، وسلّموا إليه إمورهم، وتخلّوا عن لجاجهم وعنادهم، لوجدوا في أي بقرة تقع عليها أيديهم، مايفي بالغرض المطلوب!.. ولكنه العناد الحرون، والفطرة على الشقاق والنفاق، وسيّئِ الأخلاق!.
- الثالثة: قصته مع قارون:
وهي الأدهى، والأمرُّ! فقارون، تربطه بنبيّ الله موسى وشائجُ دمٍ، وقربى رحم. وكان قارون أغنى أغنياء بني إسرائيل. فله من كنوز الذهب ماتنوءُ بحمل مفاتيح خزائنه عصبة من الجمال شديدة القوى، فكفر برسالة موسى، وجاهره العداء، وألَّبَ عليه الأعداء، باذلاً في سبيل ذلك الأصفر الرنان!: (كما تقص علينا سورة القصص. الآيات: 76-83) وتمنَّى بنو إسرائيل أن يؤتوا مثل ماأوتي قارون، فكأن الله قد أفاض عليه من الذهب نهراً لاينضب. ونسُوا، وهم دائماً ينسون، أنّ رحمة الله خير من كل ذلك وأبقى!
وانتظر بنو إسرائيل قارون، حتى خرج عليهم، يوماً، في زينته، فانبهرت أبصارهم بها، وانشدهت بصائرهم، {إنّ هذا لشئٌ عُجاب!..}. ونسوا كل شئ، فهم مأخوذون بهذه الفخامة من الزينة، والبهرج، يملآن عليهم الأفئدة، والأبصار، والأسماع!..
وبينما هم كذلك، وإذ بزلزالٍ يضرب دار قارون، وإذ بالأرض وكأنها تثور تحت قدميه، فتسيخ، وتخسف بقارون وبداره الأرض، فهو لاينفك متغلغلاً في باطنها كل يوم قامةً، إلى يوم القيامة، فاعتبروا ياأولي الألباب!.. وما أكثر العبر في بني إسرائيل، وأقلّ الاعتبار!..
وقد حال الله بين قلوبهم، وثابت الايمان واليقين، فهم في ريبهم، أبداً، يترددون!
* * *
وتكلُّ قدما موسى، وقد ضرب (أي: مشى) في عمق الصحراء، بعيداً... ولطالما قطعتا به مفاوز، وأراضي ذات آماد، وأبعاد!، وغرائب الذكريات ماانفك يتلو بعضها بعضاً!.
ويتوسد حفنه من رمل!..
فقد آن لهذا الجسد المنهك أن يستريح، ولهذه الروح الشريفة أن تنطلق في عالمها العلويِّ الرحب، الشريف، اللطيف!..
ويظهر بعد ذلك في بني إسرائيل نبيٌ جديد. إنه يوشع بنُ نون. وكان من مقرَّبي موسى. فيخرجُ بهذا الجيل الجديد منهم، الفتيِّ، المجاهد، من أرض التيهِ، إلى أرض الميعاد في فلسطين، حيث المدنُ، والمزارعُ، والخيراتُ الحسانُ!.. منقووول للافادة | |
|
حسن رجب المدير العام
تاريخ التسجيل : 12/03/2010
| موضوع: رد: النبى موسى كليم الله الخميس يونيو 24, 2010 1:21 pm | |
| | |
|
ahmed sayed مشرف
تاريخ التسجيل : 05/05/2010
| موضوع: رد: النبى موسى كليم الله الخميس يونيو 24, 2010 11:57 pm | |
| | |
|
ذات النطاقين مشرف عام
تاريخ التسجيل : 03/06/2010
| موضوع: رد: النبى موسى كليم الله الجمعة يونيو 25, 2010 12:16 am | |
| | |
|