إذا أردنا التعريف ، فكلاهما غنى عن أن يعرف ، فمن منا لا يعرف سعيد بن جبير ، الإمام ، التابعي ، المفسر ، المحدث ، الفقيه ، يقول عنه الإمام النووي فى كتابه القيم " تهذيب الأسماء واللغات " : هو سعيد بن جبير بن هشام وينسب الى بني والبة من بني أسد نسبة ولاء ، فهو مولى لهم ، وواليه هو ابن الحارث بن ثعلبة بن داودان ، وهم بطن من بني أسد ، وأسد هو إبن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، ولد رحمه الله سنة 45 هجرية ، واستشهد سنة 95 هجرية ، ويقول أيضا عنه فى نفس الكتاب " وكان سعيد من كبار أئمة التابعين ومتقدميهم فى التفسير والحديث والفقه والعبادة والورع وغيرها من صفات أهل الخير " ، ويقول عنه الإمام الذهبي فى " سير أعلام النبلاء " : " سعيد بن جبير ، الإمام ، الحافظ ، المقرئ المفسر الشهيد " ، ويقول أيضا عنه : " وكان من كبار العلماء الزهاد وكان ابن عباس رضي الله عنه يعظمه " ، ويقول عنه ابن حبان فى " الثقات " : " كان فقيها ، عابدا ، ورعا " .....
...، وعن عبادته يروى عبدالله بن مسلم بن هرمز عن حال صلاته فيقول : " وما رأيته يصلى الا كأنه وتد " ، ويقول القاسم ابن أبى أيوب : " كان سعيد بن جبير يبكى بالليل حتى عمش " ، ويروى أبو نعيم فى الحلية بسنده عن سعيد بن عبيد قال : " كان سعيد بن جبير إذا أتى على هذه الآية : " فسوف يعلمون إذ الأغلال فى أعناقهم والسلاسل يسحبون فى الحميم " رجع فيها ورددها ببكاء ونحيب ، ..... وفى زهده وورعه رويت قصص كثيرة ، منها ما حكاه بكير بن عتيق ، قال : " أتيت سعيد بن جبير بقدح فيه شربة عسل ، فشربه ثم قال : لأسألن عن هذه ، قلت : لما ؟ قال : أنى شربت واستلذذت به ، والله جل وعلا يقول : " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم "
..، أما عن علمه ، فيقول عنه تلميذه خصيف : " كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب ، وبالحج عطاء وبالحلال والحرام طاووس وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد جبر ، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير " ، وذهب الى ذلك أيضا على ابن المدينى فقد قدمه على مجاهد وطاووس وذكر بأنه أعلم تلاميذ عبد الله ابن عباس رضي الله عنه ، وليس أدل على تقدمه وعلو منزلته ورسوخ قدمه فى العلم من شهادة عبد الله ابن عباس رضي الله عنه له ، فقد كان أهل الكوفة إذا حجوا وسألوه ، قال لهم : " أليس فيكم سعيد بن جبير ؟ "
وكان سعيد رحمه الله الى جانب مكانته العلمية وتحديثه وفقهه وورعه وتقواه ، مستجاب الدعوة ، من ذلك ما يرويه أبو نعيم فى حلية الأولياء بسنده عن أصبغ بن زيد قال : " كان لسعيد بن جبير ديك ، يقوم الى الصلاة إذا صاح ، فلم يصح ليلة من الليالي ، فأصبح سعيد ولم يصلى ، فشق ذلك عليه ، فقال سعيد : ما له قطع الله صوته ، فما سمع ذلك الديك يصيح بعدها ، فقالت له أمه : أى بني لا تدع على شيء بعد ذلك ، وقد دعا على الحجاج ألا يسلطه على أحد بعده ، واستجاب الله له ، وقد تمنى رحمه الله الشهادة وطلب من الله أن ينالها ، فاستجاب الله له ، كما فى " صفة الصفوة " عن داود بن أبى هند قال : " لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال : ما أرانى إلا مقتولا ، وسأخبركم أنى كنت وصاحبان لى دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء ثم سألنا الله الشهادة ، فكلا صاحبى رزقها ، وأنا أنتظرها " .........
هذا باختصار عن سعيد بن جبير رحمه الله ، وأما الحجاج ، فمن منا أيضا لا يعرفه ، من منا لم يسمع بخطبته الشهيرة فى بداية توليته على العراق والتي مبدؤها : " انى والله لأرى أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة ورؤوسا قد أينعت وحان قطافها واني أنا صاحبها ، كأني أنظر إلى الدماء ترقرق بين الجماجم واللحى ، ان أمير المؤمنين نثر كنانته فوجدنى أمرها طعما ، وأحدها سنانا ، وأقواها قداحا ، فان تستقيموا تستقم لكم الأمور وان تخونوا تجدونى لكل مرصد مرصدا ، والله لا أقيل لكم عثرة ولا أقبل منكم عذرة ...." ، وفى " الكامل " لابن الأثير ، قال الأوزاعى : قال عمر بن عبد العزيز : " لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم " ، وقال الإمام الشافعي : " بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج : ما من أحد الا وهو عارف بعيوب نفسه ، فعب نفسك ولا تخبئ منها شيئا ، قال : يا أمير المؤمنين ، أنا لجوج ، حقود ، فقال عبد الملك : إذا بينك وبين إبليس نسب ، فقال : إن الشيطان إذا رآني سالمني ، .. وقد أحصى من قتله الحجاج صبرا فكانوا مائة وعشرين ألفا .
المواجهة إذا هنا بين رجلين ، أحدهما طغى ، وبغى ، وأفسد فى الأرض ، وظلم وتجبر ، وأولع فى دماء الخلق ، ورجل آخر ملأ الإيمان قلبه ، وأقبل على ربه ، وزهد فى الدنيا ومتاعها ، وفرغ همه كله للآخرة ، .. ، مواجهة بين حق وباطل ، بين هدى وضلال ، بين نور وظلمة ، بين رقة وقسوة ، بين انقياد واستسلام لأمر الله وتمرد وتكبر وعصيان ، فيا لها من مواجهة .
وكلا الرجلين لم يرغب فى هذه المواجهة ، فقد كان سعيد رحمه الله حريصا ، أشد الحرص على عدم إثارة الفتن ، وكان يرفض المطالبة بخلع الحجاج والخروج على عبد الملك بن مروان ، لما يرى فيها من إراقة لدماء المسلمين واستباحة لمحارمهم ، لذلك كان يقول لهم عندما سألوه عن رأيه فيها ، كما فى " تذكرة الحفاظ " للذهبي : " الرأي أن تكفوا عما تريدون فان الخلع فيه الفتنة ، والفتنة فيها سفك الدماء ، واستباحة للمحارم ، وذهاب الدين والدنيا " ، فقال له الناس : انه الحجاج ، وقد فعل ما فعل ، وراحوا يذكرون له بشاعة ما ارتكبه ، ولم يزالوا به حتى سار معهم وهو كاره ......... ، خرج سعيد مع من خرجوا مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فلما هزمه الحجاج ، هرب سعيد إلى أصهبان ، ثم إلى أذربيجان ، ثم إلى مكة ، فلما وليها خالد بن عبد الله القسرى ، قيل لسعيد : انه رجل سوء ، فلو سرت عن مكة ، فقال : والله لقد فررت حتى استحييت من الله ، وسيجيئني ما كتب الله لى .
أما الحجاج فقد كان يعرف جيدا مكانة بن جبير العلمية وتقواه وورعه ، فهو الذي أقعده للقضاء مع أبى بردة بن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه ، وأمر أبا بردة ألا يقطع أمرا دون مشورة سعيد ، وهو الذي جعله على عطاء الجند فى جيش عبد الرحمن بن الأشعث قبل خروج ابن الأشعث عاده ، لذلك كان الحجاج يخشى هذه المواجهة ولا يريدها ، فلما جئ بسعيد ورآه أمامه مقيدا شتم خالد بن عبدا لله القسرى لأنه هو الذي أرسله ...
أقبل الحجاج على سعيد وهو مكبل بالقيود ، وقال له مستهزئا به : أنت شقي بن كسير ؟
قال سعيد : بل كانت أمي أعلم باسمي منك
قال الحجاج : شقيت وشقيت أمك
قال سعيد : الغيب يعرفه غيرك
قال الحجاج : أما قدمت الكوفة وليس يؤم بها إلا عربي فجعلتك إماما ..، أما وليتك القضاء ، وأمرت أبا بردة الأشعري ألا يقطع أمرا دونك ..، أما أعطيتك مائة ألف درهم تفرقها على أهل الحاجة فى أول ما رأيتك ثم لم أسألك عن شيء منها ؟ ، قال سعيد : بلى ، قال : فما أخرجك على ؟
قال سعيد : بيعة كانت فى عنقي لابن الأشعث ...
قال الحجاج : أما كانت بيعة أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فى عنقك من قبل ؟ .. فلأبدلنك بالدنيا نارا تلظى
قال سعيد : لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها
قال الحجاج : لأقتلنك ... ، اختر لنفسك ، أي قتلة شئت
قال سعيد : بل اختر لنفسك يا حجاج فان القصاص أمامك
قال الحجاج : اذهبوا به فاقتلوه
قال سعيد : أشهد ألا اله إلا الله ، أستحفظكها يا حجاج حتى ألقاك يوم القيامة ، فلما ذهبوا به ضحك ، قال الحجاج : ما أضحكك ؟ ، قال سعيد : عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك ، ثم قال : دعوني أصلى ركعتين ، فلما توجه الى القبلة قال : " انى وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين "
قال الحجاج : حولوه عن القبلة
قال سعيد : " فأينما تولوا فثم وجه الله "
قال الحجاج : اضربوا به الأرض
قال سعيد : " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى "
قال الحجاج : اذبحوا عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم
قال سعيد : أشهد ألا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ثم دعا ربه قائلا " اللهم لا تسلطه على أحد بعدى ".
كان سعيد رحمه الله أثناء تنفيذ حكم الإعدام شامخا ، ثابت الجنان ، لم يتردد ، ولم يهن ، ولم يضعف ، ولم يرعبه الموقف ، بل كان واثقا بربه ، مستعليا بإيمانه ويقينه ...، يقول الحافظ الذهبي فى " تذكرة الحفاظ " : ولما علم من فضل الشهادة ثبت للقتل ، ولم يكترث ، ولا عامل عدوه بالتقية المباحة له رحمه الله تعالى ..، فلما قتله الحجاج لم يزل دمه يجرى حتى علا وفاض ، ففزع الحجاج من هول ما رأى ، واستدعى الأطباء ، وسألهم عن حال سعيد وحال من قتله قبله ، فانه كان يسيل منهم دم قليل ، فقالوا له : لأنك قتلته ولم يفزع ولم يخف ففاض دمه ولم يجمد فى جسده ، والدم تبع النفس ، ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف فلذلك قل دمهم .
ولم يعش الحجاج بعد قتله لسعيد بن جبير إلا أربعين يوما ، وقيل خمسة عشر يوما ، التبس عليه فيها عقله ، وكان الناس يسمعونه يردد دائما " ما لى ولسعيد بن جبير ، ما لى ولسعيد بن جبير "
وكان لمقتل هذا الإمام الفذ أثرا بالغا فى نفوس العلماء فى عصره ، فقد قال الحسن البصري رحمه الله لما بلغه الخبر : " اللهم العن فاسق ثقيف ، اللهم العن فاسق ثقيف ، والله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا فى قتله لكبهم الله فى النار " ، وقال ميمون بن مهران : لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه ..
رحم الله الإمام الفقيه المحدث المفسر المقرئ الشهيد : سعيد بن جبير ، وجمعنا معه ومع أئمة الهدى من الصحابة والتابعين فى مستقر رحمته ، انه ولى ذلك والقادر عليه .