فنقول: هنيئا لطلبة العلم؛ ما بشروا به على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم–:
فأولا: الخير الذي أخبر به في قوله -صلى الله عليه وسلم- من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين الفقه في الدين هو الفهم؛ فهم الآيات، وفهم النصوص، وفهم الأحكام الشرعية، وفهم الأدلة، والاستنباط منها؛ لمعرفة الأحكام. فإذا فتح الله تعالى على العبد، ورزقه هذا الفهم، فقد أراد به خيرا؛ حيث وفقه وسدده وفتح على قلبه؛ وحيث أقبل على هذا التعلم، واهتم به، وأراد بذلك الفضل والشرف؛ الذي هو شرف العلم، الذي هو شرف هذا الفقه. فقد ميز الله تعالى بين العلماء، وغيرهم، فقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أي: لا سواء بينهم، فإن أهل العلم هم الذين ورثوا كتاب الله تعالى، وعملوا به، فلا سواء بين عالم وجاهل.
كذلك قد ذكر الله تعالى أن حملة العلم هم أهل الخشية؛ الذين يخشون الله تعالى؛ أي: يخافونه أشد الخوف. قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ لماذا كانوا أولى بخشية الله؟ لأنهم علموا أحكام الشريعة، ثم علموا صفات ربهم، وعلموا جلاله وكبرياءه وعظمته، وعلموا وعرفوا وحدانيته سبحانه، وعرفوا آياته، وتفكروا في مخلوقاته، وعرفوا وعده ووعيده؛ فكانوا أحق بأن يخشوه حق الخشية، ويخافوه حق الخوف.
فإذا رأيت من يتجرأ على المعاصي؛ إذا رأيت من يقدم على المخالفات، إذا رأيت من يترك الواجبات، ولا يخاف من عقوبة الله تعالى، فإن ذلك دليل على جهله؛ دليل على أنه جاهل، ولأجل ذلك فسر كثير من العلماء قول الله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ فقالوا: إن كل من عصى الله فهو جاهل، ولو ادعى العلم، ولو حفظ آيات وأحاديث، وكذلك لو حمل شهادات ومؤهلات، فإن إقدامه على المعصية دليل على جهله بآيات الله، وجهله بوعد الله ووعيده، ولو ادعى أنه عالم؛ فإنها دعوى كاذبة، ويكون جاهلا جهلا مركبا، وهو أشد الجهل، وهو الذي ذكره بعض الشعراء بقوله:
لمـا جـهلت جهلت أنك جاهل
جهلا وجهل الجهل داء معضل
أي: أنك جاهل، ومع ذلك تدعي أنك عالم.
وهكذا يقول الآخر:
ومن أعجب الأشياء أنك لا تدري
وأنـك لا تـدري بـأنك لا تدري
فأولئك الذين يعصون الله تعالى، ويفعلون المحرمات؛ لك أن تصفهم بأنهم جهلة، ولو سخطوا، ولو غضبوا عليك، ولو أنكروا عليك؛ فهم في الحقيقة جهال جهلا مركبا، ومع ذلك لا عذر لهم في هذه المحرمات؛ حيث إنهم علموا ولكنهم ما عملوا، فما نفعهم علمهم، ولا أفادتهم معلوماتهم؛ بل صار علمهم حجة عليهم؛ ولذلك قال بعضهم:
فإن كنت لا تـدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظـم
هكذا يقال للذين يعصون الله تعالى وهم يدَّعون العلم؛ حيث إن علمهم ما نفعهم؛ بل صاروا بذلك أقل حالة من الجهلة.
وعـــالم بعلمـه لـم يعمـلن
معـذب من قبل عـابد الــوثن
فنقول: هذا دليل على فضل العلم؛ حيث إن أهله يخشون الله تعالى، ويخافونه، وأهل الخشية هم أهل الجنة؛ أهل الخشية حقا هم أهل الثواب، قال الله تعالى :
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ هذا الجزاء كله لأهل الخشية؛ من أهل الخشية؟ أهل الخشية هم العلماء: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ؛ فإذن هذه مزية، وفضيلة لأهل العلم.