تساؤل..!!
مع تلك الموقعة ومع هذا الموقف الذي رأيناه، كان هناك وقفة مهمَّة نتساءل فيها: هل كانت موقعة مؤتة هزيمة للمسلمين أم كانت نصرًا لهم؟ وهل كانت مجرد انسحاب ناجح؛ لأن هذا أفضل النتائج التي من الممكن أن نتوقعها في مثل هذه الظروف، أم أنها كانت نصرًا جليلاً للمسلمين وهزيمة منكرة للرومان؟!
وفي معرض الإجابة على هذه الأسئلة، فإن آراء المحللين القدامى حول هذه المعركة قد تباينت تباينًا عظيمًا، فكان منهم من رأى أن المعركة كانت انتصارًا للمسلمين، وممن رأى ذلك موسى بن عقبة في (مغازيه)، والزهري، والواقدي، وقد رجَّح ذلك أيضًا البيهقي وابن كثير.
فكل هؤلاء رأوا أن المسلمين انتصروا انتصارًا جليلاً في موقعة مؤتة.
وكان منهم من عدَّها هزيمة منكرة للمسلمين، كما أشار بذلك ابن سعد في (طبقاته). ثم كان منهم من رأى أن كل فئة قد انحازت عن الأخرى، يعني شبه تعادل بين الكفتين، وقد مال إلى ذلك ابن إسحاق في (سيرته)، وابن القيم في (زاد المعاد).
والحقيقة أني أميل بشدة إلى الرأي الأول، الذي يرى بأن هذه المعركة كانت انتصارًا حقيقيًّا للمسلمين، وعندي من الأدلة ما يقوِّي هذا الرأي ويعضده، والتي منها:
الدليل الأول: ما جاء في البخاري عن أنس، يحكي عن معجزة من معجزات الرسولوهو يخبر أصحابه نبأ أهل مؤتة قبل أن يعودوا إلى المدينة المنورة، فقد قال: "أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ". يقول أنس -وعيناه تذرفان (يعني يبكيعلى استشهاد الثلاثة وكانوا جميعًا من أحبِّ الناس إلى قلبه): "حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ".
فجملة "حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" لا تحتمل معاني كثيرة، وهي هنا تحمل معنى النصر والفتح والعلو؛ إذ إن اللهلا يفتح عليهم بمجرد الانسحاب، لكن الواضح أن المسلمين انتصروا وفتح الله عليهم، ثم قرر خالد بن الوليدأن ينسحب، وأن يكتفي بهذا الانتصار دون محاولة متابعة الجيش الروماني؛ وذلك لأن خالد بن الوليد كان واقعيًّا لأبعد درجة، وقد علم أنه لا يستطيع أن يتوغل في أرض الروم بهذا الجيش الإسلامي الصغير، فكان هذا بالفعل فتحًا من اللهعلى المسلمين، كما ذكر الرسول.
ولو أراد الرسولأن يذكر أنهم انسحبوا فقط دون انتصار، لكان من اليسير أن يقول كلمة تُفهِم هذا المحمل، مثل: حتى أنجاهم الله، أو نحو ذلك من الكلمات؛ فهوأبلغ البشر، وأوتي جوامع الكلم، ويستطيع أن يصف بكلمة واحدة الحدث تمامًا كما وقع في أرض مؤتة.
الدليل الثاني: روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، عن أبي قتادة، أن رسول اللهقال لأصحابه قبل أن يعود أهل مؤتة إلى المدينة: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الْغَازِي، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَأُصِيبَ زَيْدٌ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ"، فاستغفر له الناس. "ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ، حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، أَشْهَدُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأُمَرَاءِ، هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ"، ثم رفع رسول اللهإصبعيه فقال: "اللَّهُمَّ هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ فَانْصُرْهُ". وفي رواية: "فَانْتَصِرْ بِهِ"[1].
فهذا دعاء من رسول اللهلسيف الله المسلول خالد وللجيش الإسلامي بالنصر، ودعاؤهمستجاب. وهذا الحديث من معجزاته يخبر به عن الغيب، ومحال أن يتحقق خلاف ما ذكرهللصحابة؛ لأنه ذكره على سبيل الحجة الدامغة لنبوته، والحجة الدامغة لإنبائه بالغيب، فحين يدعو فيه بالنصر فلا بد أن يحدث، وهذا تصريح في هذه الرواية، وهي رواية صحيحة.
الدليل الثالث: وهي ملاحظة مهمة جدًّا، إذ كم تتخيل وتتوقع أن يكون عدد شهداء المسلمين في هذه الموقعة الطاحنة؟
إنه رقم لن تتخيله مطلقًا مهما فكرت فيه؛ إذ لن يوصلك تفكيرك إلى أنهم اثنا عشر شهيدًا فقط، منهم الأمراء الثلاثة.
اثنا عشر شهيدًا فقط من جملة ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف مقاتل.
وهذا دليل دامغ على انتصار المسلمين؛ وذلك لأن الجيش المهزوم من المستحيل أن يموت منه اثنا عشر فقط، وخاصة إذا كان مهزومًا من مائتي ألف.
ولا حتى يكون متعادلاً؛ لأن قتلى الرومان أضعاف ذلك، ويكفي في هذا الذين قتلهم خالد بن الوليدبأسيافه التسع التي اندقت في يده. وإذا كان شهداء المسلمين أقل من قتلى الرومان، فهذا من أبلغ علامات النصر.
الدليل الرابع: غَنِم المسلمون في مؤتة غنائم عدة، ولا يغنم إلا الجيش المنتصر، بل إنهم غنموا ممتلكات بعض كبار القادة الرومانيين، ومعنى هذا أنهم قتلوا بعض القادة الرومان، وأخذوا أسلابهم.
وقد روى ذلك أبو داود وأحمد عن عوف بن مالك الأشجعي، إذ يروي أن أحد المسلمين قتل روميًّا يحمل سلاحًا مذهَّبًا، ويركب فرسًا أشقر، وقد أخذ المسلم كل هذا[2]، وهذا يُعَدّ غنيمة عظيمة، خاصةً إذا علمنا أنه لا يحمل الذهب في المعارك إلا القادة الكبار، وليس عامَّة الجند.
الدليل الخامس: لم نسمع بعد هذه الغزوة عن شماتة شعرية من شعراء قريش، أو فخرًا من عرب الشمال، وقد كانوا لا يتركون مثل هذه الأحداث أن تمر دون قصائد شعرية.
فلو هُزِم المسلمون ما تركهم أعداؤهم في قصائدهم الشعرية، إلا أننا لم نسمع عن مثل هذا، بل كان العكس هو الصحيح، حيث سمعنا فخرًا من المسلمين على لسان كعب بن مالك، وحسان بن ثابت -رضي الله عنهما- في موقعة مؤتة، وهذا لا يأتي إلا إذا كان هناك نصر.
الدليل السادس: تركت هذه الموقعة أثرًا إيجابيًّا هائلاً على عرب الجزيرة، خاصةً على المناطق الشمالية من الجزيرة، ورأينا بعد هذه الموقعة وفود القبائل التي طالما كادت للإسلام والمسلمين تأتي مذعنة إلى المدينة المنورة؛ لتعلن إسلامها بين يدي الرسول.
ولو كانت مؤتة هزيمة لما فعلوا ذلك، ولو كانت تعادلاً لانتظروا ردَّ فعل الرومان، لكن مسارعة هؤلاء تنبئ عن شعورهم بالرهبة والإجلال لهذه الدولة التي وقف جيشها هذه الوقفة أمام جحافل الروم والعرب.
ولو كانت الغلبة في هذه الموقعة للرومان والقبائل المتحالفة معها، لكان التسابق لطلب وُدِّ الرومان وغسان هو السمة الغالبة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.
وقد حدث شيء غريب بعد مؤتة من سلوك بعض القبائل التي أتت إلى المدينة، فقد ازداد انبهار قبائل غطفان -وراجع ما سبق في الحديث عنها وفي حربها- بقوة المسلمين، وقد أتت بعد ذلك لتبايع على الإسلام، ولا يمكن أن يحدث هذا بعد الهزيمة المزعومة للمسلمين في مؤتة.
وكذلك أتت بنو سليم وأشجع وذبيان وفزارة وغيرهم، كل هؤلاء أتوا يبايعون على الإسلام، وقد اشتركوا بعد ذلك -كما سنبين- في فتح مكة، ولا يمكن أن يحدث مثل ذلك بعد هزيمة.
توضيحات أخرى
ما سبق كان أدلة وحججًا قوية في أن مؤتة كانت نصرًا كبيرًا للمسلمين. أما ما قيل من استقبال الجيش بكلمة: يا فُرَّار! أفررتم في سبيل الله؟!
فهذه الرواية سندها ضعيف، وحتى لو صحت فالرسولنفسه في هذه الرواية يدافع عن الصحابة، ويقول مخبرًا أن ما يتوهمه الناس من عودة الجيش دون احتلال مواقع الرومان، أو أخذ غنائمهم ليس فِرارًا، فقال: "إِنَّهُمْ لَيْسُوا بفُرَّارٍ، وَلَكِنَّهُمْ كُرّارٌ إنْ شَاءَ اللّهُ"[3]. هذا إن صحت الرواية.
والحقيقة الواضحة وضوح الشمس هي أن موقعة مؤتة كانت انتصارًا بكل المقاييس؛ كانت انتصارًا للإنسان على نفسه، إذ أرغم نفسه على خوض غمار المصاعب والمشاق، بل والموت دون أدنى تردد.
كانت انتصارًا على الدولة الرومانية في أول لقاء بينها وبين المسلمين، وسيكون هذا بداية لسلسلة مضنية من الحروب، التي ستكون فيها اليد العليا دومًا للمسلمين.
كانت انتصارًا على القبائل العربية الشمالية التي سارعت بعد عام واحد من هذه الأحداث إلى الدخول في دين الإسلام، وذلك بعد أن رأت قوته وبأسه، وكانت قد رأت قبل ذلك حكمته وأخلاقياته، وأيقنت تمامًا أن هذا الدين من عند ربِّ العالمين.
وكانت انتصارًا على كل عدوٍّ للدولة الإسلامية حتى على قريش في مكة؛ فحين رأت قريش هذه الأحداث حَارَتْ في أمرها، ولم تدرِ ماذا فعل المسلمون مع الدولة الأولى في العالم، وكان ذلك سببًا في هزيمة نفسيَّة لأهل مكة، مهدت بعدها لما سيأتي بعد ذلك من فتح مكة، وفتح البلاد المحيطة بها.
هذه هي موقعة مؤتة.
وهؤلاء هم الأمراء الشهداء الثلاثة.
وهذا هو خالد بن الوليد سيف الله المسلول على أعداء المسلمين، والإضافة الرائعة للدولة الإسلامية في الأشهر الثلاثة السابقة.
وهذا هو الجيش الإسلامي الذي يُكتب له النصر.
وهذا هو الدليل العملي الواقعي على أن اللهينصر من نصره، ويقف مع من جاهد في سبيله، ويدافع عن الذين آمنوا، ويمحق الكافرين.
د. راغب السرجاني