الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ):
قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء:57)، نزلت هذه الآية في بيان حال من يعبدهم هؤلاء المشركون، ونزلت في أناس كانوا يعبدون الجن وأسلم الجن وبقي هؤلاء يعبدون الجن، ونزلت فيمن يعبد عيسى والعزير ومريم والملائكة -عليهم السلام-، فأخبر الله -عز وجل- عنهم فقال: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً . أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)، هؤلاء الذين تدعونهم هم أنفسهم يبتغون إلى الله القربى، و (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ).
وإرادة القرب في قوله -تعالى-: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) علامةٌ على كمال الحب وإرادة وجه الله -عز وجل- والإخلاص، وقوله: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) فيه عبادة الرجاء، وقوله: (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) فيه عبادة الخوف، فجمع بين هذه العبادات الثلاث: الحب والرجاء والخوف، والحب يتضمن الإخلاص لوجه الله -عز وجل-.
فعبادة الإنسان لا تصح إلا بهذه الثلاث: الحب والخوف والرجاء، فهي أجنحة القلب الثلاثة التي يطير بها إلى أعلى المقامات، وبدونها لا يحصل له قرب ولا ثواب ولا منزلة عند الله -عز وجل-، فالله أمرنا أن نرجوه وأن نخاف عذابه، ومن زعم أنه لا يرجوه ولا يخافه بل يحبه فقط فقد كذب في دعواه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال أبو علي الروذباري: الخوف والرجاء كجناحي الطائر؛ إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
وسُئل أحمد بن عاصم: ما علامة الرجاء في العبد؟ فقال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان أُلهم الشكر راجيًا لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا والآخرة، وتمام عفوه عنه في الآخرة" "مدارج السالكين 2/36".
قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ):
قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218)، فبيَّن -سبحانه وتعالى- من هم الصادقون في الرجاء؛ فالذين يرجون رحمة الله -عز وجل- هم المؤمنون المهاجرون في سبيل الله المجاهدون في سبيل الله -عز وجل-، فهم رجوا وساروا على الطريق، وليسوا بالمغرورين الذين يتحدثون بالأماني وهم يسيرون في عكس ما يوصلهم إلى أمانيهم.
قوله -تعالى-: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا):
قال الله -سبحانه وتعالى- عن آل زكريا: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء:90)، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا) يرغبون إلى الله -عز وجل-، (وَرَهَبًا) أي: خوفًا وهربًا من الله -عز وجل- إليه، فمدحهم الله -سبحانه وتعالى- بذلك.
والفرق بين الرغبة والرجاء كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "والفرق بين الرغبة والرجاء أن الرجاء طمع، والرغبة طلب، فهي ثمرة الرجاء؛ فإنه إذا رجا الشيء طلبه، والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف، فمن رجا شيئًا طلبه ورغب فيه، ومن خاف شيئًا هرب منه" "مدارج السالكين 2/55".
فالرغبة والرجاء من مقامات الأنبياء وخاصة الأولياء، وليس كما يزعم أهل التصوف المنحرف أن الرجاء من مقامات العوامِّ التي يتنزه عنها الخواص، كما قالوا ذلك في الخوف، فليس عندهم خوف ولا رجاء ولا رغبة ولا رهبة، فإذا كان زكريا -عليه السلام- وآل بيته يمدحهم الله -عز وجل- بأنهم يدعونه رغبًا ورهبًا، وكما ثبت في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان أكثر دعوة يدعو بها: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (متفق عليه)، ولما قال له الرجل: "لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار"؛ قال: (حَوْلَها نُدَنْدِنُ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني)، فهذا يدل على أنه يريد ما عند الله من الثواب.
وقد قال الله -عز وجل- لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب:29)، وكما قال الله -عز وجل-: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ)، وإرادة الآخرة رجاء الثواب الذي فيها، بالإضافة إلى رجاء لقاء الله -عز وجل-، فهو رجاء الثواب ورجاء القرب، ورجاء لقاء الله -عز وجل- هو رجاء النظر إلى وجهه ورجاء سماع كلامه ورجاء رضوانه -سبحانه وتعالى-، بل هذا غاية رجائهم، وهو الذي يُعطونه في الجنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) (متفق عليه).
من كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله- في أهمية الرجاء وفوائده:
قال ابن القيم -رحمه الله- في بيان أهمية الرجاء وحاجة العبد إليه: "قوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه، ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح، وهدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات، ولي من أبيات:
لـــولا التعلق بالرجاء تـقـطعــت نفس المحب تحسـرا وتــمـزقا
وكذاك لولا بـــرده بــحـــرارة الأ كـــبــاد ذابـت بـالحجاب تحرقــا
أيـكـون قــط حـلـيـف حب لا يرى بـرجـــائـه لــحــبــيـبـه متـعلـقـا
أم كـلـمـا قويت مــــحــبــتــه لـه قــوي الرجاء فزاد فيه تشــوُّقـا
لولا الرجا يحدو المطي لما سرت بـحــمـولها لديارهم ترجو اللـقـا
وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء.
وكل محبٍّ راجٍ خائفٌ بالضرورة؛ فهو أرجى ما يكون لحبيبه، أحب ما يكون إليه، وكذلك خوفه؛ فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له، وإبعاده واحتجابه عنه، فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة؛ فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له؛ لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه، وبره، وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضى، وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما لا حياة للمحب ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه، فرجاؤه أعظم رجاء وأجله وأتمه.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة، فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه علة بخلاف رجاء الأجير، وأين رجاء المحب من رجاء الأجير وبينهما كما بين حاليهما؟" "مدارج السالكين 2/42-43".
ثم ذكر بعض فوائد الرجاء فقال:
"منها: إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه، ويرجوه، ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الحق الجواد، أجود من سُئل، وأوسع من أعطى، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمَّل ويُسأل، وفي الحديث: (مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، والسائل راجٍ وطالب، فمن لم يرجُ اللهَ يغضب عليه، فهذه فائدة أخرى من فوائد الرجاء، وهي التخلص به من غضب الله.
ومنها: أن الرجاء حادٍ يحدو به في سيره إلى الله، ويطيب له المسير، ويحثه عليه، ويبعثه على ملازمته، فلولا الرجاء لما سار أحد؛ فإن الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء.
ومنها: أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة، ويلقيه في دهليزها؛ فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبًّا لله -تعالى- وشكرًا له ورضًا به وعنه.
ومنها: أنه يبعثه على أعلى المقامات، وهو مقام الشكر، الذي هو خلاصة العبودية، فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره.
ومنها: أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها والتعلق بها؛ فإن الراجي متعلقٌ بأسمائه الحسنى، متعبدٌ بها، وداعٍ بها، قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (الأعراف:180)، فلا ينبغي أن يُعطَّل دعاؤه بأسمائه الحسنى التي هي أعظم ما يدعو بها الداعي، فالقدح في مقام الرجاء تعطيل لعبودية هذه الأسماء، وتعطيل للدعاء بها.
ومنها: أن المحبة لا تنفك عن الرجاء كما تقدم، فكل واحد منهما يمد الآخر ويقويه.
ومنها: أن الخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخوف، فكل راجٍ خائف، وكل خائف راجٍ، ولأجل هذا حَسُن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف، قال الله -تعالى-: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (نوح:13)، قال كثير من المفسرين: "المعنى ما لكم لا تخافون لله عظمة"، قالوا: "والرجاء بمعنى الخوف".
والتحقيق: أنه ملازم له؛ فكل راجٍ خائف من فوات مرجوه، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط، وقال -تعالى-: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) (الجاثية:14)، قالوا في تفسيرها: "لا يخافون وقائع الله بهم كوقائعه بمن قبلهم من الأمم".
ومنها: أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه فأعطاه ما رجاه؛ كان ذلك ألطف موقعًا، وأحلى عند العبد وأبلغ من حصول ما لم يرجه، وهذا أحد الأسباب والحِكَم في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار، فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوهم واندفاع مخوفهم.
ومنها: أن الله -سبحانه وتعالى- يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته من الذل والانكسار والتوكل والاستعانة والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضى والإنابة وغيرها، ولهذا قدَّر عليه الذنب وابتلاه به؛ لتكمل مراتب عبوديته بالتوبة، التي هي من أحب عبوديات عبده إليه، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف.
ومنها: أن في الرجاء من الانتظار والترقب والتوقع لفضل الله ما يوجب تعلق القلب بذكره، ودوام الالتفات إليه بملاحظة أسمائه وصفاته، وتنقُّل القلب في رياضها الأنيقة، وأخذه بنصيبه من كل اسم وصفة كما تقدم بيانه، فإذا فني عن ذلك وغاب عنه فاته حظه ونصيبه من معاني هذه الأسماء والصفات.
إلى فوائد أخرى كثيرة يطالعها من أحسن تأمله وتفكره في استخراجها، وبالله التوفيق" "مدارج السالكين 2/50-52".