وزير يدخل النار
هذه قصة حقيقة مازال بطلها على قيد الحياة ، وقد إستأذنته فى كتابتها فأذن لى بذلك بشرط عدم ذكر إسمه ، ولا أخفيك سراً أننى عندما إستمعت لهذه القصة كنت بين مكذب ومصدق ، إلا أن الدموع التى إنهمرت من عين بطلها وهو يرويها ، وبدنى الذى إقشعر من هول ما سمعت جعلا صدق الرجل عندى لا مراء فيه.
وبطلنا وزير سابق فى وزارة سيادية ، كانت سطوته وقسوته مضرب الأمثال ، وقد خرج من الوزارة عقب أزمة سياسية طاحنة مرت بالبلاد ، ولم يكن من المقدّر لى أن ألتقى بهذا الوزير السابق لولا أن صديقاً لى إشترى منه قطعة أرض ، وبحكم الصداقة طلب منى صديقى أن أتحقق من الملكية وأحرر عقد البيع ، وعندما أنجزت المهمة الموكلة إلىّ حانت لحظة التوقيع على العقد الإبتدائى فطلبت من صديقى إصطحاب الوزير السابق لمكتبى حتى يقوم بالتوقيع بإعتباره بائع الأرض ، إلا أن صديقى زم شفتيه وزوى حاجبيه وقال بلا مبالاة مصطنعة ... الرجل بلغ من الكبر عتياً .... وقد لا تساعده صحته على الحضور إلى مكتبك ، خاصة وأن مكتبك فى مصر الجديدة وهو يقيم فى الضفة الأخرى من المدينة ، فهل يضيرك أن ننتقل نحن إليه ؟... وثق أنه لن يضيع من وقتك الكثير ، ففى دقائق سنكون فى الفندق الأثير للرجل وهو فندق نصف مشهور فى أطراف الجيزة فى منطقة هادئة ، وقد إعتاد الوزير السابق إرتشاف فنجان قهوته صباح كل يوم فى الركن الشرقى بهذا الفندق , وحسبك يا أخى أنك ستلتقى بوزير كانت الدنيا تقوم ولا تقعد من أجله ، بل إن كل وزراء مصر فى وقته كانوا يتمنون رضاه ... وعلى مضض وافقت إذ لم يكن من المألوف فى عملى أن ألتقى بالعملاء خارج المكتب ، وفى اليوم التالى كانت السيارة تنهب الأرض نهباً فى طريقها إلى الجيزة ، وكانت قطرات المطر تنساب على زجاج السيارة الأمامى برتابة مملة ، فى الوقت الذى ظل صديقى فيه يتحدث بلا توقف وبرتابة مملة أيضاً إلا أننى تشاغلت عنه بمراجعة الأوراق والعقود.
ومن بعيد رأيت الرجل ... يا الله ... أهذا هو من إرتعدت فرائض مصر من بطشه وجبروته !! أهذا هو من ألقى العشرات فى السجون وبغى وتجبر ... ها هو يجلس وحيداً فى ركن منزوى وقد خط الزمن بريشته خطوطاً متقاطعة على وجههه ، وفعل ألافاعيل فى تقاطيعه فتهدل حاجباه وتدلت شفتاه وبدى طاعناً فى السن وكأنه جاء من زمن أهل الكهف.
وعلى الطاولة وبعد همهمات وسلامات قدمت الأوراق للرجل وأعطيته قلمى كى يوقع على العقد ، إلا أنه أخرج قلما من معطف كان يضعه على كرسى قريب منه ثم خلع قفازه ، وإرتدى نظارة القراءة وسألنى بإبتسامة باهتة ... أوقع فين يا أستاذ؟ فأشرت له إلى خانة فى الصفحة الأخيرة ، وأمسكتها له كى أساعده ، وفى اللحظة التى قام فيها الرجل بالتوقيع على العقد جفلت يدى رغماً عنى ، فوقعت الورقة منى ، إذ وقعت عيناى على ظهر يد الرجل اليمنى فرأيت بقعة مستديرة ملتهبة فى جلده يتراوح لونها بين الإحمرار والإصفرار وكأنها سُلخت على مهل ، والغريب أننى شممت رائحة شواء تنبعث من هذه البقعة وكأنها ما زالت تشوى على النار !!! ويبدو أن الوزير السابق تنبه لحالة الإرتباك التى أصابتنى ، وتوقعت أن يهب ثائراً متبرماً ، إلا أنه وعلى عكس ما توقعت نظر إلىّ نظرة حانية هادئة وكأنه أبى ، وإذا بملامح طيبة ترتسم على وجههه بلا إفتعال ، ملامح لا علاقة لها بالوزير المتغطرس الباطش المستبد ، وكأن ملامحه الطيبة هذه تدل على رجل من أهل الله ، وبيد مرتعشة تفوح منها رائحة الشواء قدم لى الوزير العقد قائلاً إتفضل ياأستاذ ، ثم إلتفت لصديقى قائلاً مبارك على الأرض .... إتفضلوا أكملوا الشاى.
ومع الرشفة الإخيرة وبعد عبارات التهنئة جمعت كل ما أملك من قوة وقلت له سلامة يدك يامعالى الباشا ، شفاك الله وعافاك ... خير إن شاء الله .... يبدوا أن شيئاً ما أصاب يدك قبل حضورنا فشكلها ملتهب جداً .... ولم يرد الرجل إلا بتمتمة غير مفهومة ، إلا أنه نظر فى الفراغ الذى أمامه نظرة أسى وحزن وكأنه أتعس رجل فى العالم.
ومرت أيام وشهور على هذه الواقعة وظلت نظرة الرجل التعيسة ويده المحترقة التى تفوح منها رائحة الشواء لا تغادر خيالى ... إلا أنه لأن كل شيئ يُنّسى مع مرور الأيام إنزوت هذه الواقعة فى ركن خلفى من ذاكرتى وسرعان ما تناسيت الرجل وتناسيت يده المشوية.
ومر عامان إلا بضعة أشهر وجاء موسم إنتخابات نقابة المحامين ، وتزاحمت علىَّ الأحداث ذلك أن أحد أصدقائى رشح نفسه لمنصب النقيب وكانت ضريبة الصداقة والوفاء توجب علىّ الوقوف بجانبه عن طريق جلب الأنصار وتحييد الخصوم ، وحدث أن واعدنى أحد الأصدقاء لمقابلة بعض الأنصار فى نفس الفندق الذى إلتقيت فيه بالوزير السابق وقبل الموعد المضروب كنت أجلس فى نفس الركن الشرقى إرتشف فنجان القهوة المضبوط ، وأمسح حبات العرق التى سالت على جبينى من فرط حرارة الجو ، وإذا برجل طاعن فى السن يتوكأ على عصاه ، ويتوجه على مهل إلى طاولة فى أقصى المكان .... منفرداً .... منزوياً ... نعم كان هو الوزير السابق صاحب اليد الحمراء المشوية.
وبعد أن جلس وإستوى على مقعده حانت منه إلتفاتة إلى الطاولة التى أجلس عليها , ثم إذا ببصره يعود ويستقر عندى للحظات ، وكان أن تبادلنا الإبتسامات والإيماءات ، ولغير سبب واضح قمت من مقعدى وتقدمت للوزير السابق محيياً مذكراً إياه بنفسى ، وبنفس الملامح الطيبة التى رأيتها عليه من قبل دعانى للجلوس ، وبعد التحيات والسؤال عن الصحة والكلام عن الجو الحار والزحام وقعت عيناى رغماً عنى على يده فوجدته – ويالعجبى – يرتدى قفازه الأسود !! – رغم حرارة الجو – فقلت بغير دبلوماسية وبعبارات فجة متطفلة لا أعرف كيف خرجت منى ... كيف حال يدك يا معالى الباشا ... أشفيت إن شاء الله ... حرق هو أليس كذلك؟ ... وبكلمات بطيئة متلعثمة وجلة قال ... نعم حرق ولكن ليس كأى حرق ... إيه ربنا يستر.
ولدهشتى إسترسل الوزير السابق فى حديثه وكأنه يحدث نفسه ... طبعاً إنت عارف ماذا كان موقعى فى الدولة ، كنت الآمر الناهى وكان الجميع يخطب ودى تصورت أننى أعز من أشاء وأذل من أشاء وتصورت أن المنصب سيدوم لى أبد الآبدين لم أفكر فى يوم من الأيام أن هناك خالق وأن هناك حساب ، فحبست وعذبت وخربت بيوت بغير حق بل وأحياناً دون سبب ... وجاء يوم وليته ما جاء كنت عائداً إلى بيتى تحيطنى سيارات الحراسة من كل جانب ، ولسوء طالعى وقع بصرى على كشك سجائر قابع فى جانب من الطريق فأستقبحت منظره ، وفى اليوم التالى أصدرت قراراً بإزالة الكشك وفى غضون دقائق معدودة بعد صدور القرار قامت قوات وجحافل بإزالة الكشك حتى لا يقع عليه بصرى وأنا عائد إلى بيتى ، لا تسألنى عن صاحب الكشك ولا عن حقوق الإنسان فوقتها لم يشغل هذا الأمر تفكيرى ولو للحظة ، وقطع الوزير كلامه قائلاً: تشرب شاى لا زم والله وقبل أن أرد عاد إلى حديثه دون أن ينتظر إجابتى ... وأثناء عودتى نظرت إلى مكان الكشك فوجدت رجلاً متهالكاً يجلس على الأرض ومعه إمرأة متشحة بالسواد وأطفال حفاة أقرب إلى العراة ، وعندما إقترب الموكب من المكان تمهل الركب لغير سبب وكأننا مجموعة من الحجاج يطوفون حول بقعة قدسية ، فإذا بالرجل الجالس يهب واقفاً قائلاً بأعلى صوته يا فلان إتق الله.. إتق الله.
وضايقتنى العبارات أشد المضايقة فسألت أحد اللواءات الذين كانوا يرافقوننى من هذا؟ فقال لى أنه صاحب الكشك ... ولم أنتظر لليوم التالى بل وأنا فى سيارتى أصدرت قراراً بإعتقال صاحب الكشك ثم إتصلت تليفونياً ببعض أعوانى وأمرتهم بتأديب الرجل ... ومرة أخرى قطع الوزير كلامه قائلاً: الله ألم تطلب شاى لازم والله ... ثم وبنفس الإسترسال ودون إنتظار الإجابة إستمر قائلاً ... أرقتنى عبارة الرجل إتق الله كانت صادقة وقوية ومجلجلة ، لم أتعود أن يقولها أحد لى من قبل ، هل تصدق أننى عندما ذهبت إلى بيتى تحدثت مع قريب لى فى كلية دار العلوم حتى يشرح لى معنى كلمة "إتق الله" لا أعرف لماذا توقفت هذه الكلمة عند أذنى وتجاوزت سمعى إلى داخل أحشائى فإذا بألم شديد يمزق معدتى ... ومع بعض المسكنات والمهدئات حاولت أن أنام ولم أستطع وفى اليوم التالى رأيت فى ذات المكان إمرأة صاحب الكشك وهى متشحة بسوادها ومعها أطفالها العراة ، وإذا بصوتها هى الأخرى يعلوا مجلجلاً يا فلان إتق الله ، وفى بيتى لا حظت زوجتى أرقي فهدأت من روعى وقالت لى: لا تخشى شيئاً أنت من أهل الجنة خدماتك على البلد كثيرة حد يقدر ينكر.
هل تصدق ياأستاذ ... هو بالمناسبة إنت قلت إسمك إيه؟؟ الله ألم تطلب شاى لازم والله ، وعرفت أنه لن ينتظر إجابتى وبالفعل إستمر فى إسترساله الغريب ... هل تصدق أننى نمت يومها نوماً عميقاً ... وياليتنى ما نمت .... وهنا بدأت دموع الرجل تنساب وبدأ صوته يتهدج ، نمت ورأيت فى نومى أن القيامة قد قامت ورأيتنى عارياً من ملابسى ، وإذا بملائكة غلاظ شداد لا أستطيع أن أصفهم لك يجذبوننى بعنف إلى النار وأنا أقاوم وأحاول أن أبحث عن حراسى ورجالى ولكن للأسف لم أجد أحداً معى يناصرنى أو يدفع عنى العذاب ، هل تصدق أنه أثناء جذب الملائكة لى رأيت زوجتى فقلت لها إنقذينى فقالت نفسى نفسى ، فتعجبت وقلت لها ألم تخبرينى أننى من أهل الجنة ؟ فلم ترد ، حاولت أن أناقش الملائكة فقلت لهم لقد قدمت لمصر الكثير ستجدون أعمالى الباهرة فى ميزان حسناتى فلم يرد على أحد منهم ، وأثناء جذبى وجرى نظرت إلى الجنة فوجدت قصراً عالياً شامخاً ليس له مثيل يظهر من خلال أسوار الجنة ، هل تصدق أنها أسوار تشف ما خلفها!! فقلت للملائكة هذا قصرى خذونى إليه فقال أحد الملائكة إنه قصر صاحب الكشك فقلت ولماذا إستحقه فقال الملاك لأنه لم يرضخ للظلم وقال كلمة حق عند سلطان جائر فهو شهيد ، فقلت وأين مكانى قالوا فى الدرك الأسفل من النار ، وقتها حاولت التملص منهم وكنا قد إقتربنا من أبواب الجحيم ، وعندما هممت بدفع أحد الملائكة بيدى هذه إذا بلفحة بسيطة من حر جهنم تصيبنى فى ظهر يدى ، آه لو تعرف يا أستاذ مدى الألم الذى أصابنى لا يوجد مثله مثيل على وجه الأرض ، مجرد لفحة بسيطة لا من النار ولكن من حر النار ، فقمت من نومى صارخاً فزعاً ونظرت إلى ظهر يدى فإذا به وكأنه إحترق ورائحة الشواء تتا تتا تتصاعد منه وآه وآه وألف آه أسرعت بالإتصال تليفونياً بأحد رجالى فإذا به يخبرنى أن صاحب الكشك مات من التعذيب ... مات لا وألف لا .... صرخت قائلاً .... أعيدوه للحياة .... أعيدوه للحياة أعيدوا له الكشك .... ولكن لا حياة لمن تنادى ... سبقتنى يدى إلى النار ... كنت قد إندمجت مع حكاية الوزير حتى أننى لم ألحظ بكاءه ونشيجه ، وكان بدنى كله مقشعراً وكأننى قنفذ تائه فى صحراء , ونظرت حولى فإذا ببعض الجالسين المتطفلين ينظرون إلينا بإهتمام بالغ ، وتدحرجت كلمات منى لا علاقة لها ببعض ... يا باشا ربنا غفور رحيم أطلب منه المغفرة ... على فكرة أنا ممكن أطلب شاى .... هو الرجل مات فعلاً .... هى النار جامدة قوى .... ربنا يستر .... ربنا يستر ..... وبعد هنيهة عاد الهدوء للرجل وإكتسى وجهه بملامح طيبة وظهرت فى عينيه نظرة رجاء وإستعطاف ثم قال ربنا غفور أليس كذلك ثم أردف إتفضل أشرب شاى.