مقدمة
أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه أول الخلفاء الذين أمرنا رسول الله بالاقتداء بهم والاهتداء بهدي
لما توفي النبي صلى الله عليه و سلم ارتجت العرب واختلف المسلمون ولا سيما الأنصار والمهاجرون في الخلافة فتدارك الأمر أبو بكر بحكمته وسرعة بديهته وتمت له البيعة بالإجماع . وقد برهن رضي الله عنه أنه أكفأ رجل وأنه رجل الساعة وقتئذ لأن العرب عندما سمعوا بوفاة رسول الله ارتد كثير منهم واستفحل أمر المرتدين في جزيرة العرب وظهر المتنبئون وجمعوا جيوشهم وثاروا على المسلمين . فمنهم من خرج عن الإسلام ومنهم من منع الزكاة ووضع الصلاة وأباح المحرمات وطرد كثيرا من الولاة ولولا شدة تمسك أبي بكر بسنة رسول الله وقوة عزيمته وشجاعته لتغلب المرتدون وقضوا على الإسلام قضاء مبرما . ولقد هال أمر المرتدين في بادئ الأمر كبراء الصحابة ولكن أبا بكر ثبت ولم يتزعزع وظهرت كفايته في إرسال الجيوش واختيار القواد والولاة إلى جميع أنحاء جزيرة العرب فكبح جماح المرتدين وهزمهم شر هزيمة واستتب الأمن في البلاد في أقل من سنة . ولم يقتصر على ذلك بل بعث الجيوش إلى العراق والشام فانهزمت الفرس والروم ومن والاهما من العرب . وقد تم ذلك كله في مدة خلافته وهي سنتان وأشهر ولا شك أن هذه مدة قصيرة بالنسبة إلى ما تم في خلالها من جلائل الأعمال وقد مهد بذلك طريق الفتوحات الإسلامية لمن جاء بعد من الخلفاء واتضحت بذلك حكمة رسول الله في اختيار أبي بكر بعده .
وقد كان رضي الله عنه مع ذلك لطيفا وديعا متواضعا زاهدا في الدنيا متقشفا عادلا غير طامع في ملك أو غنى بل كان كل همه نشر الإسلام وتوطيد أركانه واتباع سنة رسول الله . وقد كان مؤلفا لقلوب المسلمين . وعلى العموم كان خير قدوة لهم في دينهم ودنياهم . وقد اختار لهم خير من يصلح للخلافة بعده وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان وزيره وقاضيه وملازما له طول مدة خلافته وذلك حفظا لكيان الإسلام
ترجمة حياة أبو بكر الصديق رضي الله عنه
- هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي . يلتقي مع رسول الله في مرة بن كعب . أبو بكر الصديق بن أبي قحافة . واسم أبي قحافة عثمان . وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة وهي ابنة عم أبي قحافة
أسلم أبو بكر ثم أسلمت أمه بعده وصحب رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال العلماء : لا يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله إلا آل أبي بكر الصديق وهم : عبد الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة . فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون . وأيضا أبو عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم
ولقب عتيقا لعتقه من النار وقيل لحسن وجهه . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( أبو بكر عتيق من النار ) فمن يومئذ سمي ( عتيقا ) . وقيل سمي عتيقا لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به . وأجمعت الأمة على تسميته صديقا . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( إن الله تعالى هو الذي سمى أبا بكر على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم صديقا ) وسبب تسميته أنه بادر إلى تصديق رسول الله صلى الله عليه و سلم ولازم الصدق فلم تقع منه هنات ولا كذبة في حال من الأحوال . وعن عائشة أنها قالت :
( لما أسري بالنبي صلى الله عليه و سلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمن وصدق به وفتنوا به . فقال أبو بكر : إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء غدوة وروحة فلذلك سمي أبا بكر الصديق )
وقال أبو محجن الثقفي :
وسميت صديقا وكل مهاجر ... سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد ... وكنت جليسا في العريش المشهر ولد أبو بكر سنة 573 م بعد الفيل بثلاث سنين تقريبا وكان رضي الله عنه صديقا لرسول الله قبل البعث وهو أصغر منه سنا بثلاث سنوات وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته . وقيل كنى بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة . فلما أسلم آزر النبي صلى الله عليه و سلم في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله . وكان له لما أسلم 40 . 000 درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة
قال تعالى { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى } . الليل 17 - 19
وقد أجمع المفسرون على أن المراد به أبو بكر . وقد رد الفخر الرازي على من قال إنها نزلت في حق علي رضي الله عنه
كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفا لهم وكان إليه الأشناق
( 1 ) في الجاهلية . كان إذا عمل شيئا صدقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه وإن احتملتها غيره خذلوه ولم يصدقوه . فلما جاء الإسلام سبق إليه وأسلم من الصحابة بدعائه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم : عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وأسلم أبواه وولداه وولد ولده من الصحابة فجاء بالخمسة الذين أسلموا بدعائه إلى رسول الله فأسلموا وصلوا
وقد ذهب جماعة إلى أنه أول من أسلم قال الشعبي : سألت ابن عباس من أول من أسلم ؟ قال : أبو بكر أما سمعت حسان يقول :
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا
وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر . وكان تاجرا ذو ثروة طائلة حسن المجالسة عالما بتعبير الرؤيا وقد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية هو وعثمان بن عفان . ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر رضي الله عنه ما علم عنه حين ذكرته له ) أي أنه بادر إليه . ونزل فيه وفي عمر { وشاورهم في الأمر } آل عمران 159 فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يشاوره في أموره كلها
وقد أصاب أبا بكر من إيذاء قريش شئ كثير . فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما دخل دار الأرقم ليعبد الله ومن معه من أصحابه سرا ألح أبو بكر رضي الله عنه في الظهور فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا أبا بكر إنا قليل . فلم يزل به حتى
صفته رضي الله عنه
- كان أبو بكر رجلا أبيض خفيف العارضين لا يتمسك إزاره
(1) معروق الوجهة ناتئ الجبهة عاري الأشاجع
( 2 ) أقنى ( 3 ) غائر العينين حمش الساقين ( 4 ) ممحوص الفخذين ( 5 ) يخضب بالحناء والكتم
زوجاته وأولاده
- تزوج أبو بكر في الجاهلية ( قتيلة بنت سعد ) فولدت له عبد الله وأسماء . أما عبد الله فإنه شهد يوم الطائف مع النبي صلى الله عليه و سلم وبقي إلى خلافة أبيه ومات في خلافته وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبو بكر . وولد لعبد الله اسماعيل فمات ولا عقب له . وأما أسماء فهي ذات النطاقين و هي التي قطعت قطعة من نطاقها فربطت به على فم السفرة في الجراب التي صنعت لرسول الله وأبي بكر عند قيامها بالهجرة وبذلك سميت ( ذات النطاقين ) وهي أسن من عائشة . وكانت أسماء أشجع نساء الإسلام وأثبتهن جأشا وأعظمهن تربية للولد على الشهامة وعزة النفس تزوجها الزبير بمكة فولدت له عدة أولاد ثم طلقها فكانت مع ابنها عبد الله بن الزبير حتى قتل بمكة وعاشت مائة سنة حتى عميت وماتت
وتزوج أبو بكر أيضا في الجاهلية ( أم رومان ) فولدت له عبد الرحمن وعائشة زوجة رسول الله توفيت في حياة رسول الله في سنة ست من الهجرة فنزل رسول الله قبرها واستغفر لها وكانت حية وقت حديث الإفك وحديث الإفك في سنة ست فن شعبان فعبد الرحمن شقيق عائشة شهد بدرا وأحدا مع الكفار ودعا إلى البراز فقام إليه أبو بكر ليبارزه فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ( متعنا بنفسك ) وكان شجاعا راميا أسلم في هدنة الحديبية وحسن إسلامه شهد اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل وهو من أكابرهم وهو الذي قتل محكم اليمامة بن الطفيل الذي كان من قواد بني حنيفة المشهورين رماه بسهم في نحره فقتله كما سيأتي ذكر ذلك في موقعة اليمامة . وكان عبد الرحمن أسن ولد أبي بكر وكان فيه دعابة . توفي فجأة بمكان اسمه حبش على نحو عشرة أميال من مكة وحمل إلى مكة ودفن فيها وكان موته سنة 53 هجرية
وتزوج أبو بكر في الإسلام ( أسماء بنت عميس ) وكانت قبله عند جعفر بن أبي طالب . فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصر فقاتله صاحب معاوية وظفر به فقتله وولد له القاسم
وتزوج أيضا في الإسلام ( حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي ) فولدت له جارية سمتها عائشة أم كلثوم . تزوجها طلحة بن عبيد الله فولدت له زكريا وعائشة ثم قتل عنها فتزوجها عبد الرحمن بن عبيد الله بن أبي ربيعة المخزومي
قال الأستاذ واشنجتون إيرفنج في كتاب ( محمد وخلفاؤه ) :
خطبة ابى بكر الصديق بعد البيعة
- بدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
( إن الله بعث محمدا رسولا إلى خلقه وشهيدا على أمته ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى ويزعمون أنها لهم عنده شافعة ولهم نافعة وإنما هي من حجر منحوت وخشب منجور . ثم قرأ : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } يونس 18 { وقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } الزمر 3 . فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم وكل الناس لهم مخالف . زار عليهم فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم ( 1 ) وإجماع قومهم عليهم فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله والرسول وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من عبده ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أبو بكر ) رضي الله عنه . وقالت الشيعة وكثير من المعتزلة هو ( علي ) وهؤلاء جوزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل . وحجتهم أن قيام علي بالجهاد كان أكثر من قيام أبي بكر فوجب أن يكون علي أفضل منه لقوله تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا-عظيما -وأجاب أهل السنة عنه بأن الجهاد على قسمين : جهاد بالدعوة إلى الدين وجهاد بالسيف . ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه جاهد في الدين في أول الإسلام بدعوة الناس إلى الإسلام . وبدعوته أسلم عثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين . وعلي رضي الله عنه إنما جاهد بالسيف عند قوة الإسلام فكان الأول أولى وحجة القائلين بفضل أبي بكر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه و سلم : ( ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر
تجهيز رسول الله ودفنه
- بعد أن بويع أبو بكر جهز رسول الله ودفن ليلة الأربعاء وقد غسل في قميصه وغسله العباس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله وحضرهم أوس بن خولى الأنصاري من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خثيمة بقباء وكان العباس وابناه يقلبونه وأسامة وشقران يصبان الماء وعلي يغسله وعليه قميصه وهو يقول ( بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا ) . وكفن في ثلاثة أثواب يمانية ( 1 ) بيض من كرسف ( قطن ) ليس في كفنه قميص ولا عمامة ولا عروة
وبعد أن غسل رسول الله وكفن وضع على سرير وأدخل عليه المسلمون أفواجا يقومون ويصلون عليه ثم يخرجون ويدخل آخرون ولم يؤمهم في الصلاة عليه إمام حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء ثم دخل الصبيان
وكان أول من دخل أبو بكر وعمر . فقالا : ( السلام عليك أيها النبي . . ورحمة الله وبركاته ) ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت فسلموا كما سلم أبو بكر وعمر وصفوا صفوفا لا يؤمهم عليه أحد فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله :
( اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل عليه ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلماته فآمن به وحده لا شريك له . فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما . لا نبتغي بالإيمان بديلا ولا نشتري به ثمنا أبدا )
فيقول الناس آمين آمين ثم يخرجون ويدخل غيرهم . ولما فرغوا نادى عمر حلوا الجنازة وأهلها
ولما اختلفوا في موضع دفنه قال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( ما مات نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه ) قال علي : وأنا أيضا سمعته فرفع فراشه ودفن . ولما أرادوا أن يحفروا لرسول الله كان بالمدينة رجلان أبو عبيدة بن الجراح يضرح لأهل مكة وكان أبو طلحة الأنصاري هو الذي يلحد لأهل المدينة . فجاء أبو طلحة وألحد لرسول الله وجعل في قبره قطيفة حمراء كان يلبسها فبسطت تحته وكانت الأرض ندية ورش قبره صلى الله عليه و سلم بلال بتربة بدا من قبل رأسه وجعل عليه من حصباء العرصة ( 2 ) حمرا وبيضا ورفع قبره عن الأرض قدر شبر ونزل قبره علي والفضل وقثم ابنا العباس وشقران وأوس بن خولى الأنصاري
وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه 22 جمادى الآخرة سنة 13ه ( 23 آب أغسطس سنة 634 م)
- توفي أبو بكر رضي الله عنه لثمان بقين من جمادى الآخرة ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء وهو ابن ثلاث وستين سنة وكان قد سمه اليهود في أرز وقيل في حريرة وهي الحساء فأكل هو والحارث بن كلدة وقال لأبي بكر أكلنا طعاما مسموما سم سنة فماتا بعده بسنة وقيل إنه اغتسل وكان يوما باردا فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة فأمر عمر أن يصلي بالناس ( 1 )
ولما مرض قال له الناس ألا ندعو الطبيب ؟ فقال : أتاني وقال لي أنا فاعل ما أريد فعلموا مراده وسكتوا عنه ثم مات
وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس وابنه عبد الرحمن ( 2 ) وأن يكفن في ثوبيه ويشتري معهما ثوب ثالث . وقال : الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هو للمهلة والصديد . غسلت أبا بكر زوجته أسماء ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت إني صائمة وهذا يوم شديد البرد فهل علي غسل ؟ قالوا لا ( 3 )
وقد روي أنه اغتسل في يوم بارد فحم فمن ذلك يتبين أن الجو كان باردا في هذه الأيام فإنه حم بسبب استحمامه في يوم بارد . كذلك غسل في يوم بارد لذلك نرجح سبب وفاته كان تأثره بالبرد لا بسبب السم الذي قيل إن اليهود دسوه له في الحساء لأن حادثة السم المزعومة كانت قبل وفاته بسنة . ودفن ليلة وفاته وصلى عليه عمر بن الخطاب وكبر عليه أربعا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بين القبر والمنبر ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة وجعل رأسه عند كتفي النبي صلى الله عليه و سلم وألصقوا لحده بلحد النبي صلى الله عليه و سلم وجعل قبره مثل قبره مسطحا وناحت عليه عائشة والنساء فنهاهن عن البكاء عمر فأبين فقال لهشام بن الوليد ادخل فأخرج علي ابنة أبي قحافة . فأخرج إليه أم فروة بنت أبي قحافة أخت أبي بكر فعلاها بالدرة ( السوط ) ضربات فتفرق النوح حين سمعن ذلك . وكان آخر ما تكلم به ( توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) وكانت عائشة رضي الله-عنها-تمرضه
=============
مواقف ومواعظ
في تاريخنا الإسلامي عباقرة في الحكم والسياسة وفنون القتال والعبادة والعلاقات الإنسانية، إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
ووهبوا أنفسهم لنصرة دينه الذي ارتضاه للبشرية جمعاء، فقد اختارهم الله سبحانه وتعالى لإعلاء الحق ودحض الباطل وبحكمتهم
وقوة ايمانهم وحسن قيادتهم أعز الله الإسلام ونشره في معظم بقاع الأرض.
من ابرز قادة المسلمين ورجالهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليلأبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهو الذي قال
عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة، عدا أبي بكر فإنه لم يتلعثم”، وهو الصديق
الذي اشتهر بمقولته عن رسول الله: “إن كان قال فقد صدق” قالها حينما عاد من تجارة له في الشام، واستقبله بعض كفار قريش
بنبأ نزول الوحي على صاحبه محمد بن عبد الله، قال ذلك قبل أن يرى رسول الله أو يسمع منه، ثم قالها أيضا عندما اخبروه بأن
صديقه محمد يقول بانه قد أسري به إلى بيت المقدس، ولم يكن قد قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سمع منه شيئا، فقد
ألجمهم بمقولته: “إن كان قال فقد صدق”، وقال ردا على تعجبهم من أن النبي ذهب ليلا وعاد في الليلة ذاتها: “أي بأس إني
لأصدقه فيما هو ابعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه في غدوه أو رواحه”.
قائد حكيم
ذاك هو الصديق الذي أنقذ المسلمين من متاهة كادت تضعف إيمانهم وتزلزل كيانهم يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ،
فقد كان صعبا على المسلمين تصديق وفاة الرسول، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف بين الناس قائلا: إن رجالا
من المنافقين يزعمون أن رسول الله مات، وانه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران.
في تلك اللحظة جاء أبو بكر لينقذ الموقف بشجاعته وثباته رغم شدة حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف أبو بكر
في الناس خطيبا وقال: “أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت” ثم تلا الآية:
“وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم”.. (آل عمران: 144).
في تلك اللحظة قال عمر بن الخطاب: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فقعدت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض
وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وعقب عبد الله بن مسعود راوي ما حدث فقال: والله لكأن الناس
لم يعلموا أن الله انزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم، فما نسمع بشرا من الناس إلا يتلوها.
في ذلك الموقف الرهيب تجلت حكمة أبي بكر وفي سقيفة بني ساعدة وضحت تماما قدرته على قيادة الناس بعد وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فحينما علم باجتماع الأنصار في السقيفة لاختيار خليفة من بينهم أسرع إليهم ومعه عمر بن الخطاب حتى
لا تحدث فتنة بين المهاجرين والأنصار، وقام خطيب الأنصار فأشار إلى ما للأنصار من فضل في نصرة الإسلام ، ولما اراد
عمر أن يرد عليه طلب منه أبو بكر أن يترك له المجال ، وتكلم أبو بكر فقال: اما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم تعرف
العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين أيهما شئتم ،
وذكر عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح وكثر اللغط وقال أحد الأنصار: منا أمير ومنكم أمير،
وهنا تدخل عمر بن الخطاب وطلب من أبي بكر أن يمد يديه إليه فبايعه عمر وبايعه المهاجرون ثم الأنصار.
وقفة شامخة
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقعت أحداث مؤسفة خارج المدينة ومكة المكرمة فقد ارتدت أحياء كثيرة من العرب مبتدئة
بمنع دفع الزكاة إلى خليفة رسول الله، واشتد عود مسيلمة الكذاب الذي كان يدعي النبوة والتف حوله خلق كثير، كما ادعى النبوة
طليحة الأسدي الذي سانده بنو أسد وطيء وهدد المرتدون بغزو المدينة المنورة، وأمام هذه الأحداث المؤلمة وقف الصديق
رضي الله عنه شامخا وكأن الله اختاره لقيادة المسلمين في ذلك الوقت العصيب لينقذ الإسلام من آلاف السهام الموجهة اليه.
ففي الوقت الذي كان يرى فيه فريق من الصحابة أن امتناع الناس عن دفع الزكاة لا يبرر قتالهم خاصة أن الذي يقود هذا الفريق
هو عمر بن الخطاب رأينا الصديق يرفض هذا الرأي تماما، ويرى أن منع الزكاة بداية ردة عن الإسلام فقد روى أبو هريرة أن
عمر بن الخطاب قال لأبي بكر : علام نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا
أن لا إله لا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها”، فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقا
( وفي رواية عقالا ) كانوا يؤدونه إلى رسول الله لأقاتلنهم على منعه ، إن الزكاة حق المال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة
والزكاة ، قال عمر : فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت انه الحق .
لقد تجلت عبقرية أبي بكر أيضا ووضحت صلابته في الحق وقوة عزيمته وتقديره الصائب للأمور في إصراره على إرسال جيش أسامة بن زيد
إلى الشام لقتال الروم تنفيذا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، فقد أشفق بعض الصحابة على المسلمين من احتمال غزو بعض
جيوش المرتدين للمدينة دون أن يكون بها جيش يحميها، وأشار بعض الصحابة على الصديق أن يؤجل بعث جيش أسامة وكان من بين من أشار
عليه بذلك الصحابي الجليل عمر بن الخطاب، فامتنع وقال :”والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا
والسباع من حول المدينة ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة، وآمر الحرس يكونون حول المدينة”.
وتم تجهيز جيش أسامة وبعثه لقتال الروم في الشام فكان الجيش كلما مر بحي من أحياء العرب الذين أوفدوا وأصروا على منع الزكاة إلا قالوا:
ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة، وتأكد لصحابة رسول الله صواب رأي أبي بكر في بعث الجيش.
ولكي يؤمّن أبو بكر المدينة ضد الغزاة فقد لجأ إلى نظام الحراسة الليلية فجعل حراسا حول المدينة يقضون الليل كله بما معهم من الجنود، وكان
من أمراء الحراس علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود،
ولقد أغار بعض الأعراب على المدينة فتصدى لهم أبو بكر فانهزموا وفروا إلى “ذي القصة”، وبعد أيام تبعهم أبو بكر وقضى على فتنتهم.
وكانت مطاردة المرتدين في وادي “ذي القصة” بداية معارك المسلمين ضد المرتدين فما أن قدم أسامة بن زيد من الشام حتى أمّره على
المدينة وخرج بجيوش المسلمين يريد حرب المرتدين كافة، فجاءه علي بن أبي طالب واخذ بزمام راحلته فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟
أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: “شمْ سيفك فوالله لئن أُصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدا”، ورجع أبو بكر
إلى المدينة بعد أن عقد الألوية لأحد عشر قائدا في وقت واحد ليحاربوا المرتدين كافة.
وما إن انتهت حرب الردة حتى بدأ أبو بكر في غزو بلاد الفرس، فقد انتدب لذلك اعظم قواده خالد بن الوليد، وعياض بن غنم، وأطبق
كل منهما على جيوش الفرس حتى التقيا، وكان النصر للمسلمين في كل معاركهم فلما انتهوا وجههم أبو بكر لقتال الروم في بلاد الشام ،
وكان أبو بكر قد اختار أربعة من القادة المسلمين لافتتاح بلاد الشام وهم: عمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، وأبو عبيدة بن الجراح ،
وشرحبيل بن حسنة، وتخير لكل منهم جنده، وأمر كلا منهم أن يسير بجنده في طريق سماه لهم وعين لكل منهم الولاية التي يتولاها بعد الفتح،
ثم تقابلت الجيوش في اليرموك وأمدهم أبو بكر بخالد بن الوليد وجيشه، وفي واقعة اليرموك جاء بريد المدينة بوفاة أبي بكر وخلافة عمر،
وفي البريد عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش وتولية أبي عبيدة بن الجراح فلما انتهت المعركة بالنصر للمسلمين سلم خالد قيادة الجيش
لأبي عبيدة..رحم الله أبا بكر وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.